حرية التعبير عن المعتقد الديني: حرية الفرد مقابل سلطة المجتمع

مسلم، مسيحي، درزي، بهائي، علماني، أو لاديني.. معتقدات دينية تشكل واحدة من مكونات هوية كل منا، تتفاوت أهميتها بين فرد وآخر، تتغير بتغير الزمان والمكان، تتنازع مع قناعات فكرية سياسية، اجتماعية، ثقافية، فلسفية وغيرها، أو مع انتماءات الوطن، المدينة، الجنس، الحزب، الطبقة، المهنة، العائلة، وغيرها الكثير.

لكن ما مدى حرية التعبير عن المعتقد الديني في الأردن، ومن يضع حدودها؟ الفرد، المجتمع، أم الدولة ومؤسساتها الرسمية والأهلية؟ وإن كانت جميعها، ما مدى سلطة كل منها، وهل تتغول إحداها على الأخرى؟

الموضوع “شائك” بالنسبة لمحمد البيطار، وهو شاب مسلم لديه قناعاته الخاصة بتطبيقات الإسلام. ويقول: “الكلام النظري حول احترام الآراء والمعتقدات الأخرى سهل جدا لكن عند التطبيق الواقعي تصطدم بالكثير، مثل طبيعة السلطة الاجتماعية والعادات والتقاليد“.

ويلفت إلى أن المجتمع في الدين الواحد لا يسمح لك بأن تنفرد في رأي، فداخل الدائرة الإسلامية مثلا عندما تأخذ رأيا إلى اليسار أو اليمين قليلا، تجد أن العائلة لا تسمح لك بذلك. ويدعو إلى وضع ضوابط في مجتمع متدين لكي لا يعتدي أحد على حرية الآخرين في معتقداتهم الدينية، “لكن الممارسة والتطبيق ليست بالأمر السهل وكذلك وضع الضوابط والحدود ليس سهلا. ولا يكفي أن يبت فيه علماء دين، بل علماء اجتماع وغيرهم“، يقول البيطار.

ويتساءل عن مدى تقبلنا لمعتقدات أخرى، أديان أخرى أو لا دين؟

“على مستواي الشخصي، قد أتقبل أن يكون لي صديق ملحد لكن قد أشعر بالحرج من أن يكون هناك منبر أو سلطة يخاطب بها المجتمع لأنني سأشعر بخطر يهدد أسرتي. وهنا أقع بالتناقض بين السماح بحرية الرأي والتعبير وبين الخوف منها“.

ويستدرك البيطار قائلا: “في نفس الوقت تعلمت من عقيدتي أن الإنسان لا يجب أن يقلد في العقيدة بل تكون بالاقتناع ولا يمكن فرضها على أحد. وإذا تعمقنا في الدين نجد أنه يسمح بالآراء المختلفة لكن يبدو أننا أخذنا باتجاه متزمت جدا في الدين لدرجة أننا داخل المذهب الواحد لا نسمح بآراء أخرى“.

ريم، شابة مسلمة لديها فهمها الخاص للإسلام ويتلخص في أن “القرآن هو المصدر التشريعي الوحيد للمسلمين“، فهو “المعجزة الوحيدة الباقية بين أيديهم“. وهي نظرة تخالف وجهة النظر السائدة بين المسلمين الذين يعتبرون الأحاديث النبوية ثاني مصدر للتشريع بعد القرآن. في حين يرى “القرآنيون” أن “أفعال الرسول، كالصلاة والصيام، وصلت إلى أيامنا عن طريق التواتر (ما نقله جمع عن جمع وصولا للرسول)، خلافا لأقواله التي نقلت عن طريق الآحاد (ما لم ينقله جمع كبير عن الرسول)، وهي محل الإطاعة في الأمر الإلهي.

لكن ريم تجد صعوبة في التعبير عن أفكارها. “أقول رأيي العقائدي ولكني لا أناقش بعد ذلك، لما يولده النقاش من عداوات. فنحن مجتمع نرفض الآخر ونتحول إلى الفكر المركزي الذي يجعل الإنسان صلبا فكريا وغير متقبل لأي فكر مخالف. وترتبط أزمة تقبل المجتمع لمثل أفكارنا بأزمة العقل العربي بشكل عام.

وتحمل ريم مسؤولية رفض المجتمع للرأي المختلف لـ“مناهج التعليم التلقيني التي أدت إلى غياب الفكر النقدي على مدى مئات السنين“. وتعزو رفض معظم الناس للآراء المختلفة إلى ما يسمى بـ“حد الردة” وهو حكم، وفقا لريم، “غير موجود في القرآن ووجد للتصدي لجميع الأفكار المغايرة والمخالفة“.

مسيحي الدين إسلامي الثقافة

في ظل هيمنة ثقافة دينية أحادية في مجتمع متعدد الأديان قد يظهر لدى الفرد تناقضات بين هويته الدينية وتأثير الثقافة الدينية السائدة عليه. بعض النخب السياسية من الأديان الأخرى فضلت حسم التناقض لخدمة أهدافها السياسية، مثل نائب رئيس الوزراء السابق رجائي المعشر الذي لخص المسألة بقوله في ندوة عامة أنه “مسيحي الدين إسلامي الثقافة“.

لكن لا فصل بين الدين والثقافة، وفقا لأحد قادة الكنيسة الإنجيلية، جريس حبش: “أنا أعتبر نفسي مسيحيا دينا، عربيا ثقافة. فثقافتي عربية وإن كانت متأثرة بالثقافة الإسلامية، مع بقاء الخصوصية في هويتي كوني أردني مسيحي“.

ويضيف: “عندما يقول مسيحي “أنا مسلم ثقافة“، فإن ذلك أحدث نوعا من الإرباك، فالأردني والباكستاني، على سبيل المثال، لديهم قاسم مشترك بالدين، إلا أنهما يختلفان من حيث الثقافة. وهذا لا ينفي وجود تأثيرات إسلامية على الثقافة العربية، فمن المؤكد أن تترك 1500 سنة تأثيراتها على الثقافة العربية“.

“أما المسيحيون الذين يرفعون شعار “أنا مسلم ثقافة“، فقد يكون ذلك عائد لاجتهادات شخصية عن واقع المجتمع الأردني وتركيبته، أو أنه بسبب اتخاذ مواقف سياسية ترى ما ينسجم مع الرأي العام السائد لتحصيل مكاسب سياسية، وربما يكون ذلك لقناعة البعض بأن ثقافتهم إسلامية فعلا“، يقول حبش.

العلمانية المؤمنة

وفي محاولة الأفراد للمزاوجة بين “الإيمان بالإسلام” وبين الاندماج في العولمة وتطور المجتمعات باتجاه توسيع مساحة الفرد وقيمته في المجتمع، ظهر في المنطقة اتجاه فكري أطلق أصحابه عليه “العلمانية المؤمنة“. الكاتب سامر خير كتب سلسلة من المقالات في صحيفة “الغد” عرض فيها آراءه في “العلمانية المؤمنة“، ولخص أساس رؤية العلمانية المؤمنة للحياة، بـ“اعترافها بالاختلاف الموجود في هذه الحياة، وبالتالي عدم سعيها لتنميط الناس والمجتمع والدولة من جهة، ورفضها كل مساعي التنميط التي قد يقوم بها آخرون، من جهة ثانية“.

ويرى الكاتب محمد أبورمان أن “العلمانية المؤمنة” اتجاه في انتشار وتطور وقد يسود في مرحلة قادمة. “مؤخرا تزايد هذا التيار بتفاسير متنوعة، منها المزاوجة بين العلمانية والإيمان.

وهذا النموذج هو الأكثر تأثرا بالفكر الغربي الذي يعولم على مستوى أوسع وتصبح قيمة الفردية أكبر ويشعر الفرد بقيمته واستقلاليته مع الشعور بعدم التناقض بين إيمانه على المستوى الفردي وممارسته للحياة ضمن النسق الذي يختاره وبين النظام السياسي الذي يعيشه“.

ويتابع: “راجت الفكرة في فترة معينة بسبب التأثر بالتجربة التركية لحزب العدالة والتنمية في الحفاظ على النظام العلماني وبقاء الجانب الديني كحق لكل فرد. وبذلك أعاد هذا الحزب تعريف العلمانية على أساس الحرية الدينية“. ويقتبس أبورمان عن الكاتب اللبناني توفيق شومان في تفسيره للعلمانية المؤمنة أن “الفرق بين أردوغان وأربكان أن الأول جعل القرآن في قلبه وسار في حين جعل أربكان القرآن أمامه فكان دائما يصطدم به“.

في الإعلام

المسألة ليست سهلة ولا متاحة في المجتمع والدولة، يقول الكاتب إبراهيم غرايبة، “يوجد سلطة مجتمعية كبيرة جدا تمنع الناس من التعبير عن اعتقادها أو ممارسة سلوكها الديني وعبادتها وتدينها كما تفهمه ويرتاح ضميرها له. لكن يوجد قدر واسع من الحديث وإبداء الرأي“.

ويشير غرايبة إلى أنه يستطيع مثلا كتابة ونشر آرائه التي يصفها بأنها قد “تخالف الرأي السائد“. “ربما يستطيع البعض أن يصدر أحكاما تصل إلى الردة أو مخالفة أقل من ذلك. لكن أتوقع أن المناخ العام لدينا الآن يسمح للإنسان بأن يعبر عن آرائه وأفكاره المتعلقة بما يؤمن أو لا يؤمن به، ليست إلى درجة مرضية لكن ليس فيها قهر للضمير“.

لكن بوصف عام يرى الكاتب أن التعبير عن القناعات الدينية في الإعلام “صعب جدا، في حين أن التعبير عن الرأي السياسي هو الأسهل“. ويضرب مثلا حادثة الرسوم المسيئة للرسول: “لم يكن هناك أي مجال للتأني، ظهرت موجة جماهيرية هستيرية تريد البطش بالآخرين. في صحيفة الغد تعرضنا للهجوم بالرغم من أن الصحيفة كانت ضمن الحملة والهجمة المضادة للرسوم“.

ويتفق أبورمان مع غرايبة في أن حرية التعبير عن القناعات الدينية مقيدة، بل و“مقيدة أكثر من الحرية الفردية في الممارسة“. ويشير إلى “كتاب في الغد أرادوا نشر مقالات تخالف المعتقدات الفقهية السائدة واجهنا صدام واحتجاجات وسحبت اشتراكات من الصحيفة“.

وإذا كان التعبير في وسائل الإعلام عن آراء مخالفة للمعتقدات الفقهية السائدة بين المسلمين من السنة في الأردن يثير جدلا واحتجاجات، فإن التعبير عن قضايا الأديان والطوائف الأخرى تغيب تماما عن وسائل الإعلام، حتى وإن كان في حدود التعريف بهذه الأديان.

“يتجاهل الإعلام قضايا المسيحيين“، يقول جريس حبش، أحد قادة الكنيسة الإنجيلية في الأردن.

ويروي تجربته مع الإعلام عندما طلب منه كتابة مقال في إحدى الصحف اليومية عن أسس اختيار النائب. “كتبت عن أنني أؤيد النائب الذي يقف مع حقوق الإنسان والحريات الدينية، وفوجئت بشطب تعبير “الحريات الدينية” من المقال عند الطباعة. وهو ما يشير إلى أن الصحف اليومية تضع لنفسها خطوطا حمراء عندما يدور الحديث عن الأديان“.

ومن الانطباعات والتعميمات الخاطئة عن الإنجيليين، والتي قد يساهم الإعلام في تكريسها، تفسير بعض الإنجيليين بأن ما يجري في فلسطين هو تتمة لنبوءات الكتاب المقدس. “وهذا ليس تفسيرا لعموم الإنجيليين، ونحن كإنجيليين أردنيين نرفض هذا التفسير ونعتبر وجود إسرائيل وجودا سياسيا وليس دينيا.أنا مثلا من أصول فلسطينية ومن حقي العودة إلى بيتي، وهو ما ينسجم مع مفهوم العدالة الإلهية“.

ويتابع: “الكنيسة الإنجيلية كنيسة مستقلة، ففي الأردن ليس هنالك أية سلطة خارجية على الكنيسة. وكإنجيلي أردني يتأثر بقضايا الأردن، وكذلك الإنجيلي الأمريكي يتأثر بالقضايا الأمريكية، ومن الخطأ نسبة أخطاء الإنجيليين الأمريكيين إلى إنجيليي الأردن والمنطقة“.

وفي ظل غياب الأديان الأخرى في الإعلام الحرفي تصبح المواقع الالكترونية مجهولة المصدر مرجعية لمن يبحث عن معلومات حول الطائفة الشيعية أو الديانتين الدرزية أو البهائية أو غيرها من الديانات الموجودة في الأردن، وتقدر في مجموعها بـ2% من السكان، إضافة إلى 2-3% من المسيحيين، وفقا لتقرير الخارجية الأمريكية لعام 2010، وهو المصدر الوحيد لهذه الاحصائيات التي لا توفرها دائرة الاحصاءات العامة ولا أي جهة رسمية أردنية أخرى.

يقول حازم فياض، شاب يعتنق الديانة الدرزية: “هنالك بعض المواقع التي تدعي أنها مرجعية في المعلومات عن الدرزية إلا أنها لا تنقل معلومات صحيحة، وقد يكون لها دور سلبيي يظهر من خلال التعليقات المسيئة للدرزية وأتباعها“.

وكذلك الحال مع الديانة البهائية وتاريخها، والتي “تهاجم وتشوه في عدد كبير من المواقع الالكترونية التي تورد معلومات مغلوطة“، وفقا لفارس النعيمي الذي يعتنق الديانة البهائية. وينتقد بعض التقارير الصحفية التي تنقل “معلومات غير صحيحة عن البهائية، ولا تسعى لأخذ المعلومات من مصادر الديانة نفسها“.

وبذلك ظهرت انطباعات خاطئة لدى بعض الناس ضد الديانة البهائية، مثل وصفهم بـ“الكفار” أو مواقف مسيسة ليس لها أساس من الصحة كربط البهائيين بنشأتهم في إيران من جهة، وبمكان قبلتهم في عكا وغيرها من الأماكن المقدسة لديهم في حيفا، واتهامهم بإقامة علاقات مع إسرائيل.

“تتفاوت ردود فعل الناس إزاء البهائيين من حالة إلى أخرى، ولكننا نعتبر أنفسنا جزءا من المجتمع الأردني، وعلاقتنا بشكل عام مع الناس ودية ويتقبلوننا. من الطبيعي أن يكون هناك تخوّف لدى البعض من المجهول، ولكن بعد معاشرتنا يتضح لهم حسن سلوكنا وأخلاقنا مما يزيد من الثقة والعلاقة الوديّة مع جيراننا وزملائنا في العمل ومعارفنا“، يقول فارس النعيمي.

ويقول حازم فياض: “عدم معرفة بعض الناس بالديانة الدرزية، يجعلهم في البداية يتخوفون من التعامل معنا، والنفور والابتعاد عنا. لكن، ومع مرور الوقت وزيادة التقرب والتعرف، يتبين لهم أن تلك الأفكار المسبقة عن الدرزية خاطئة، حيث كانوا يعتقدون أن الدرزي كائن مخيف لا يعبد الله بل أنه يعبد الشيطان“.

وكبديل عن الإعلام السائد قرر أمجد الفيومي إنشاء مدونة خاصة به يعبر من خلالها عن فهمه الخاص بالإسلام، لكنها كانت باسم وهمي وليست باسمه الحقيقي لغاية الآن ورغم أن عدد زوارها وصل إلى 45 ألفا. ويقول: “شعرت أن أفكاري ستسبب لي مشاكل لكن أردت نشرها، وهي في معظمها فهم جديد للدين. كثيرون قد يعادونني ويكفرونني بسبب فكرة مثل أن العلمانية أو الديمقراطية لا تتعارض مع الدين، لأنهم يصدرون أحكاما جاهزة على أي فكرة أو تفسير مخالف لما تعودوا عليه، حتى ولو لم يتعمقوا فيها“.

ويزيد: “أول المشاكل ستأتي من خسارة أصدقائي. هذا بالإضافة إلى الرقابة السياسية التي تمنعني من إشهار هويتي في مدونتي، خوفا من أن أحاسب على نشاطي السياسي السابق“.

وقبل القيود على نشر أفكاره، واجه أمجد قيودا على الكتب التي يسمح أو لا يسمح بقراءتها داخل الحركة التي انضم لها في مرحلة مبكرة من عمره وغادرها بسبب القيود التي فرضتها على حريته في التفكير والتعبير وممارسة حياته.

“في الفترة التي تدينت فيها خلال دراستي الجامعية قاطعت كتب نجيب محفوظ رغم أنني رأيت فيه نصا رائعا لكن سمعت أن الفتاوى في رواية “أولاد حارتنا” التي لم أكن مطلعا عليها، تقول أن محفوظ خرج عن السياق الديني ويجب أن لا نقرأها“.

ويضيف: “بعد أن مررت بتغيرات فكرية وخرجت من الدائرة التي كنت فيها، عدت وشغلت عقلي فيما أتلقاه وقرأت الرواية ووجدت فيها على وجه التحديد نصا تطويريا في فهم الدين وفيها طرح محفوظ رؤية علمية للدين متقدمة جدا لكن تم تكفيره واقصاؤه لأن الشيوخ لم يفهموا الرواية ولم يجدوها تتفق مع تيارهم الذي يريدون فرضه“.

وتكررت تجربته مع كتب أخرى، مثل رواية حيدر حيدر “وليمة لأعشاب البحر” التي تم تكفيرها ومنعها في حينها. “فلماذا أتبنى أفكارا جاهزة ممكن أن تحرمني من مسائل مهمة جدا؟“، يتساءل أمجد.

ويرجع محمد البيطار إشكالية تكفير كتاب مثل نجيب محفوظ وناصر حامد أبوزيد، إلى ما بعد الطفرة النفطية وتأثير الوهابية السعودية في المنطقة. ويتابع: “لو ظهرت كتب طه حسين الآن، وتحديدا كتابه في الشعر الجاهلي، لتم تكفيره بل ومحاولة قتله“.

الحريات الشخصية

حرية التعبير عن القناعات الدينية تتفاوت بين فئة وأخرى، كل حسب معتقداتها ومدى انسجامها أو تعارضها مع السائد في مجتمعها، وبالتالي تختلف في مدى تأثيرها على حياة وحرية أفرادها الشخصية.

ويلفت غرايبة إلى أن “معاناة غير المتدينين في ممارسة السلوك الشخصي بحرية وتعرضهم للتضييق ومواجهة إساءات كثيرة. ومع الصعود الديني يوجد خوف من قوننة التضييق الاجتماعي على غير المتدينين في ممارسة حياتهم الشخصية كما يؤمنون بها أو كما يريدونها“.

لكن المسألة نسبية، كما يراها أبورمان. “إذا كان الإنسان غير متدين وله قناعاته الخاصة يرتبط بالمحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه، إذا كان المحيط محافظا فسيعاني وإذا لم يكن كذلك فلن يعاني. لكن حرية التعبير هي التي تصطدم بالثقافة الاجتماعية السائدة“.

وهو ما يؤكده غسان يونس الذي يصف نفسه بـ“لاديني“، أي أنه لا يؤمن بأي دين. فيونس يعيش في مجتمع من أسرة وأصدقاء وزملاء عمل وناشطين سياسيين، يشاركونه معتقداته أو يتقبلون تعبيره عنها أو ممارسته لها.

“ليس لدي مشكلة في التعبير عن آرائي بكل صراحة وأمام أي أحد ولكني أحاول الانضباط بحدود اللباقة فقط وذلك بعدم الإساءة لأحد. أما من تزعجه آرائي فله الحرية في ذلك. ويعتمد مدى نفور الناس من مثل تلك الآراء على طريقة الطرح فأنا لا أهاجم أحدا ولا أسيء لأحد، إضافة إلى مدى معرفة الحضور بالمتكلم“.

ويضيف: “لدي من الأصدقاء من مختلف التيارات إن كانت دينية غير سياسية أو سياسية لا تلتفت للمسائل الدينية.معظم من يواجهون إشكاليات بطرح أفكارهم يواجهونها مع عائلاتهم أكثر مما يواجهونها مع المجتمع. وتظهر مثل تلك الإشكاليات مع النساء بشكل أكثر وضوحا“.

“صحيح أن مجتمعنا ليس مثل المجتمعات الأوروبية في تقبل الآخر، إلا أننا لا نريد ظلم مجتمعاتنا، فالمجتمعات المحافظة في في الولايات المتحدة على سبيل المثل، قد تكون أشد صرامة في عدم تقبل الآخر“، يقول يونس.

الدين منتجا فرديا

الدين بمستوياته المختلفة: الايمان والتدين والتطبيق، وفقا لإبراهيم غرايبة، هو “منتج فردي أولا ومتأثر بالبيئة الاجتماعية والاقتصادية، ثم منتج اجتماعي واقتصادي، بمعنى أن كل فرد ينتج تدينه وإيمانه“.

لذلك لا يعتقد غرايبة بجواز وجود معتقد رسمي يطبق على الجميع، “لأن النص الديني ليس خطابا محددا على الجميع، يطبق وفق تعليمات وأفكار، فالدين يأخذ أهميته من تصديقه. ليس هناك سلطة للدين سوى أننا نصدق، وليس هناك أي قوى علمية أو قانونية أو مادية“.

ويعرف الدين بأنه “ما جاءنا به الأنبياء وقالوا “أوحي إلينا” ونحن صدقنا ذلك فقط، ولو لم يصدق الناس الأنبياء لما كان هناك دين، وربما هناك أديان ليست موجودة لأن أحدا لم يصدقها ويتبعها. فالدين مستمد من اتباع الناس له. وبعد أن يتلقى الإنسان الرسالة ينتجها وحده بالإيمان والتدين والتطبيق“.

“وعلى مستوى الايمان فلا يمكن القول آمنوا بهذا ولا تؤامنوا بذلك لأن الايمان مسألة لا يمكن إجبار الناس عليها، وخارجة عن سلطة القانون والقهر المادي. فالايمان مسألة تخص كل فرد، هو الذي يشكلها ويفهم الأشياء كما يدركها. وهو المسؤول عنها وحده وسيقابل الله يوم القيامة وحده ولن يفيده اعتقاد سائد أو موقف رسمي أو مذهبي“، يضيف غرايبة.

ويفسر غرايبة نشوء الفكرة السائدة تاريخيا أن هناك معتقدات رسمية أو سائدة ومن يخالف هذه المعتقدات يخضع لأحكام قضائية ومجتمعية وإدارية وسياسية، بأن “الاعتقاد الديني أصبح هو السلطة المجتمعية والسلطة المرجعية لرجال الدين الذين تشكلت لهم مع الزمن أفكار وأحكام أصبحت ذات قوة اجتماعية اكثر مما هي قانونية وسياسية“.

“وأصبح هناك ما يسمى الشريعة، وهي ليست الدين بل هي تطبيق الدين، وتوسع تطبيق الشريعة التي لا تأخذ أحيانا معنى دينيا. لذلك لا يستطيع أحد أن يلزم الناس دينيا بأن هذا حكم الله، ولا أحد له وصايا أو مقدرة أو نفوذ ليحدد أن هذا يستحق العقوبة من الله أو لا يستحق“، يقول غرايبة.

حرية التعبير عن المعتقد الديني رهينة السلطة الدينية السياسية

امتازت الحركات الإسلامية في مسيرتها التاريخية بعقد العلاقات الوثيقة ما بين الدين والسياسة، فيما اتخذت الدولة مواقف متباينة من هذه الحركات، مع اختلاف التحليلات حول أسباب التباين في مواقفها.

وتبدأ “المشكلة”، على حد تعبير الكاتب إبراهيم غرايبة، من التجربة الإسلامية المتمثلة بغلبة تسييس الإيمان تاريخيا منذ خلافة أبوبكر، ولكن التجربة المعاصرة كانت الأوضح في تسييس الدين، مقابل فشل النخب العلمانية التي لم تمتلك مشروعا تنويريا، وفقا لما يراه غرايبة.

فيما يرجع الكاتب محمد أبو رمان تسييس الإسلام بولادة حركات إسلامية، إلى محاولة الرد على التغريب والعلمانية، حيث ركزت هذه الحركات على قضية الهوية أكثر من الإصلاح والتجديد والإبداع، وهو ما انعكس على المجتمع ومسلكياته.

ولم تقف الحركات الإسلامية لدى حدود تسييس الدين، وإنما عملت على خلق إطارها الخاص بأفكاره وأحكامه.

ويستعيد غرايبة كتابته لمقالات حين كان داخل الحركة الإسلامية خلال التسعينيات، إلا أنها لم تكن مقبولة، بل هوجمت بشدة داخل الحركة، مع إشارته إلى تبنيهم لكثير من الأفكار التي كان يطرحها سابقا.

“فالحركة تتصرف كإطار اجتماعي كامل، ولهم قواعد فقهية خاصة بهم لا تطبق إلا داخل الجماعة ومن يختلف معها يتم إقصاؤه، لتتحول فيما بعد إلى ما هو أشبه بالطائفة الدينية المستقلة”.

ومن صور الفقه الخاص بالجماعة، ما أبرزته رسائل جامعية مثل حكم المشاركة في الوزارة والتي تحرم ذلك على الإخوان حصرا وليس على المسلمين بشكل عام.

ويتذكر غرايبة أن النقاش كان مطروحا حول جواز زواج “الأخ” من غير “أخت” في الجماعة أو العكس، حيث كان هناك من يسعى لتحريم الزواج من خارج الجماعة كما كانت هنالك مساع دائمة لترتيب زيجات داخل الجماعة لتشكيل أسر ضمنها.

“ومن المفارقات أن يسمح لنساء جبهة العمل الإسلامي بالمشاركة انتخابا وترشحا في الانتخابات النيابية والبلدية باسم الحركة، إلا أنهن يمنعن من الانتخاب أو الترشح في الانتخابات الداخلية لحركة الإخوان المسلمين”، يقول غرايبة.

ويخلص إلى أن الجماعة إذا ما استمرت بهذا الشكل فستتحول إلى طائفة دينية لها فقهها وأحكامها الخاصة بها، تصل إلى أن لا يتزوجوا من خارج “طائفتهم”، كما الحال في طوائف دينية أخرى، وهي صيرورة تطور الطوائف الدينية.

ومن هنا تأتي ضرورة الإصلاح الديني الإسلامي، والذي يعني غالبا فقدان معظم المؤسسات العلمية الدينية لتأثيرها ومصالحها، ليتحول الدين إلى موضوع علمي مثل الجغرافية والفلسفة ويصبح موضوع دراسة وليس سلطة، وهو ما سيواجه بمقاومة كثيرين مثل أساتذة الفقه.

وترى ريم، أنه إذا لم يتم مثل هذا الإصلاح فسيبقى العقل العربي يعتمد على ما يقوله علماء الدين من فتاوى، التي يستندون فيها على أقوال علماء من العصور السابقة على الرغم من تغير الزمان والمكان، وهو ما يشكل مخالفة للأمر الإلهي “أفلا يتدبرون القرآن..” لأن الفتوى التي يتلقاها الناس من علماء الدين تعني باختصار “فكــّـرْ بدلا عني”.

وبقبول العقل العربي لكل أقوال العلماء دون نقد، يتشكل لدينا مجموعة من الأقوال والمسلكيات التي تناقض القرآن وتتعارض مع العلم والعقل وتخالف القيم الإنسانية، ليتحول الإسلام إلى دين سطحيات وشكليات، مع اكتفاء الناس بالشعائر وترك العبادات الحقيقية من صدق وأمانة، تقول ريم.

وعلى الرغم من وجود قدر كبير من التسامح على مستوى العلاقة بين الأديان المختلفة، خاصة بين الديانتين الرئيسيتين الإسلام والمسيحية، حتى في الدستور والقوانين وفي المستوى الاجتماعي، إلا أن المشكلة الرئيسية تقع ضمن الديانة نفسها، أي مفهوم التسامح داخل الدين، يقول أبو رمان.

“ويعطي التسامح في الفتاوى والآراء الفقهية، بعدا آخر للتسامح بشكل عام، وعلى سبيل المثال، تقول فتوى معاصر إن معنى “من بدل دينه فاقتلوه..” هو الخروج على الدولة وليس مفهوم “الردة” وقتل من يغير دينه، مما يعطي الفرد مساحة أكبر للحركة ضمن المجموعة”.

وتحاول السلطة الاجتماعية والسلطة الفقهية السائدة، بحسب أبو رمان، أن لا ينازعها أحد في هذه السلطة، فإذا طرح أحدهم رؤية ما، مثل القرآنيين، فإنهم يواجهون من خلال سلطة الفقهاء والمجتمع السائدة وليس السلطة السياسية.

السلطة السياسية ودورها في المؤسسات الدينية

يذهب الكاتب أبو رمان إلى أن السلطة في الأردن تتخذت موقف الحياد الديني فلا تتبع جهة أو مذهبا على حساب آخر، وليست مؤدلجة دينيا مثل الشيعية في إيران أوالوهابية في السعودية، ولا هي علمانية ضد الدين مثل تونس واليمن سابقا، بل هي سلطة علمانية محافظة، أي أنها ليست معادية للدين ولا مؤدلجة دينيا.

فيما يرى غرايبةأن الحضور الديني في الدولة أكبر بكثير مما يبدو للوهلة الأولى، فالمشهد الديني في الدولة ليس فقط في الاتجاهات الدينية، فالحضور الديني في السلطة كبير، قد يكون ذلك أقل من السعودية وإيران، إلا أن لدينا فائضا كبيرا من السلطة الدينية الرسمية.

فالدولة لم تتعامل مع الدين والأوقاف كمسألة مجتمعية حتى عندما دخلنا موجة الخصخصة وتخلينا عن وزارات الثقافة والإعلام والرياضة، فكان من المفترض أن يعامل الدين مثل هذه الموارد كمنتج مجتمعي، إلا أن الدولة بقيت متمسكة ولم تسمح أبدا للمجتمع بأن يتدخل في الشأن الديني، يضيف غرايبة.

ومن أشكال تدخل الدولة في الشأن الديني، بحسب غرايبة، بقاء إدارة المساجد رسمية بالكامل متمثلة في وزارة الأوقاف، وكذلك الإفتاء في القوات المسلحة التي تعد مؤسسة دينية كبيرة جدا لا تقل عن الأوقاف ولها حضور واحترام في الجيش.

ويضيف “يعد الحضور الديني موردا وأداة من أدوات السلطة التي تحرص على التمسك بها بطريقة أكثر تطرفا في كثير من الأحيان من الجماعات الإسلامية، وإن كان يبدو ناعما وغير واضح، وليس من المتوقع أن لا تتخلى الدولة عن الدين كأداة من أدوات تنظيم المجتمع وضبطه واكتساب الشرعية والصدقية في السياسات والعمل والإدارة”.

إلا أن “تسامح الدولة الديني”، مرتبط، من وجهة نظر أبور مان،بالأمن السياسي، أي أنها تسمح بحرية الدين والمعتقدات إلا إذا أثرت على الجانب الأمني والسياسي، وعندها تتدخل الدولة، “فالدين هو في خدمة السياسة والأمن وليس العكس”.

ففي الصراع بين الصوفيين والسلفيين في الأردن، على سبيل المثال، لم تقف الدولة إلى جانب أحد الطرفين، بل سمحت لهما ووظفت بعض الأطراف في البعد الأمني للدولة.

ويشير أبو رمان إلى أن الدولة لم تحرص على بناء تيار إسلامي مستنير، بل وظفت جماعات دينية تقليدية بما يخدم الرؤية الأمنية الموجودة، حتى أن الملف الديني ما يزال بإدارة أمنية وليست سياسية.

فيما اتخذت الدولة، في مثال آخر، موقفا محددا غير محايد، “فعندما انتشرت ظاهرة التشيع في الأردن قاومت الدولة التشيع لما كان لديها من قناعة بأن هذا التشيع مضر بالأمن ضمن حالة الاستقطاب الموجودة في المنطقة، يوضح أبو رمان.

بينما تحول موقف الدولة، في سياق “التشيع”، حيث كان الأمير الحسن في عام 1995 مسؤولا عن الملف الديني في البلد وحاول الانفتاح على الشيعة خارج الأردن وتحدث إليهم داخل الأردن، وفي عامي 2005 و2006 أصبح التشيع بمثابة جريمة وذهبت قضايا إلى المحكمة بتهمة التشيع وإن تمت تبرئتهم.

وفتح ملف “التشيع” أو نشر التشيع لأول مرة عام 2009 بعد أول قضية محاكمة لستة أردنيين بتهمة “الترويج للمذهب الشيعي”، والتي تضمنت وقائعها أن المتهمين عقدوا اتهامات وأصدروا شهادات نسب صادرة عن المجمع العالمي لأنساب آل البيت في سوريا، إلا أن محكمة أمن الدولة برأتهم من تهمة “إثارة النعرات الطائفية”، بعد إنكارهم لما اتهموا به من توزيع منشورات وكتب لإثارة النعرات والحض على النزاع بين عناصر المجتمع الأردني.

وقامت السلطات الأمنية عام 2008 باستدعاء شبان بتهمة “التشيع”، كما جرى فصل استاذ جامعي من وظيفته بعد اتهامه بالترويج للمذهب الشيعي، وفقا لتقرير “للجزيرة نت”، تناول عشرات حالات التشيع السياسي خلال الحرب الإسرائيلية مع حزب الله في لبنان عام 2006.

ونقل تقرير “الجزيرة نت” عن عميد الطائفة الشيعية عقيل بيضون قوله بأن والده سرح من الجيش الأردني عام 1979 عشية قيام الثورة الإيرانية بعد وصوله لرتبة قائد فرقة، ويضيف “كما سرحت شخصيا من الجيش عام 1991 عندما كنت برتبة رائد في سلاح الجو الملكي.

وأشار بيضون إلى وجود 2000 مواطن من أبنائها في الأردن، ينتشرون بشكل أساسي في شمال المملكة، ولا سيما في مدينة الرمثا، تعود أصول معظمهم لجنوب لبنان، ودخلوا البلاد عام 1920، أي قبل تأسيس إمارة شرق الأردن.

فإذا كانت هناك ثقافة دينية سائدة تؤمن الاستقرار الأمني للدولة فهي لا تريد أن تقوم ثورة ضد هذه الثقافة وتسايرها وتراعيها ضمن حق الاستقرار الأمني والسياسي، بحسب أبو رمان.

“فالدولة في سياق صراعها مع الحركات الإسلامية، على سبيل المثال، تزاود عليهم في مواجهة من يخالفون المعتقدات الدينية السائدة لأن ذلك جزء من اللعبة الأمنية والسياسية”.

وفي مرحلة ما دعمت الدولة التيار السلفي التقليدي الذي يعتبر مفاهيم “الديمقراطية” و”الدولة” كفرا محضا، لأن هذا التيار يمنحها فرصة مواتية من حيث إقناع الناس بالابتعاد عن السياسة والدخول في اللعبة السياسية، فهم يتقاطعون مع الدولة في هذا البعد، وليس لأن الدولة تؤمن بالمعتقدات الدينية لهذا التيار.

فيما ظهر التأثير الديني على التربية والتعليم جليا للحضور الذاتي للحركات الإسلامية، في مرحلة تحالفت فيها الدولة مع جماعة الإخوان المسلمين، يضيف أبو رمان.

وبذلك تبدلت تحالفات الدولة التي كانت صوفية لغاية الثمانينيات، في وقت كان المذهب الشافعي هو المذهب السائد، إلى أن دخلت السلفية إلى الأردن بشكلها القوي بسبب عوامل إقليمية وليست محلية، وهي العلاقة مع السعودية.

نظام قانوني وإداري

إشكالية حرية التعبير عن المعتقد الديني يجملها غسان يونس، وهو شاب يصف نفسه بـ”لاديني”، في الجانب القانوني من مسألة العقائد والأديان بمواجهة نصوص يمكن وصفها بأنها “حمالة أوجه” قابلة لعدة تفسيرات وتأويلات، إضافة إلى القوانين التي تطبق في بعض الأحيان ولا تطبق في أحيان أخرى، مطالبا باستبدال مثل تلك القوانين بما ينسجم مع مفهوم الدولة المدنية.

ويشير إلى وجود “تخبط السياسات” في تطبيق قوانين وأنظمة استنادا إلى البعد الديني، “فقبل سنوات تم إغلاق أحد المقاهي التي منحت وزارة السياحة صاحبه رخصة لبيع المشروبات الكحولية في رمضان، فيما منعت وزارة الداخلية في ذات الحكومة، ذلك وأغلق المقهى.

الدين في بطاقة الهوية

تختلف تجربة يونس ومجتمعه الذي “لا يلتفت للمسائل الدينية”، على حد قوله، عن كل من حازم فياض، شاب درزي، وفارس النعيمي، من الديانة البهائية، اللذين تشكل معتقداتهما الدينية جزءا مهما من هويتهما. لذلك فإن عدم سماح أنظمة الحكومة بوضع “درزي” في خانة الديانة على بطاقة الهوية الشخصية لحازم، أو “بهائي” على بطاقة فارس، تشكل بالنسبة لهما انتقاصا من حقهما في التعبير عن معتقداتهما الدينية.

“أكبر تقييد لحريتي بالتعبير عن معتقدي يتمثل بعدم ذكر ديانتي الدرزية في خانة الديانة بأوراقي الرسمية والاستعاضة عن ذلك بكتابة “إسلام”، وهي معلومات غير صحيحة في أوراق رسمية”، يقول حازم فياض. وعندما استفسر عن ذلك في الأحوال المدنية كان الجواب بأن “الدرزية غير معترف بها في الأردن”.

وفي بعض الحالات تصل الإجراءات الإدارية التي يفرضها موظفون حكوميون، قد تعبر أو لا تعبر عن أنظمة أو قوانين، إلى حد منع أو مصادرة الكتاب الديني الخاص بإحدى الديانات غير المعترف بها رسميا في الأردن. وهي حادثة شهدها فياض.

“كنت عائدا من زيارة لدمشق، وكان أحد ركاب الحافلة التي تقلنا درزيا يحمل الكتاب الديني للدروز، ولدى التفتيش في الجانب الأردني من المركز الحدودي تمت مصادرة الكتاب وتحويل حامله إلى دائرة المخابرات، لمجرد رؤيتهم للكتاب. ولدى سؤالي عن المشكلة جوبت بأن اصطحاب هذه الكتاب ممنوع”، يقول فياض.

إلا أن تسجيل خانة الديانة في الهوية بحد ذاته، يثير تمييزا، بحسب أحد قادة الكنيسة الإنجيلية، جريس حبش، “إن لم يكن من خلال المعاملات الحكومية، فمن خلال التعامل مع المجتمع والناس”.

“فماذا سيفيد شرطي السير، مثلا، إذا أوقفني وطلب هويتي أن يعرف ديانتي، وما هو شأن الموظف الذي أقدم له طلب توظيف بمعرفة ديانتي؟”، يتساءل حبش.

إلا أنه لا يرى إشكالية في أن تكون الديانة مسجلة في سجلات الأحوال المدنية لاستخدام المعلومات أثناء المعاملات الشخصية كالزواج، أما في الهوية فهو أمر يخلق تمييزا، على الأقل مع الأشخاص ذوي النفسيات الضعيفة.

الإسلام في المدارس

الإسلام، وتحديدا المذهب السني والفقه التشريعي السائد، هو الديانة الوحيدة التي تدرس في المدارس الحكومية في الأردن. كما يسمح بتدريس الديانة المسيحية في المدارس الخاصة. أما المذاهب والديانات غير المعترف بها رسميا في الأردن فلا يسمح بتدريسها. وتصبح دراسة الإسلام في المدارس الحكومية إلزامية على غير المسلم أو المسيحي.

وقد يشكل ذلك قيدا على حرية البعض، أو قد لا يشكل قيدا كما الحال مع الشاب البهائي، فارس النعيمي. “ندرس الدين الإسلامي أو المسيحي في المدرسة لأن أهالينا يشجعوننا على دراسة مختلف الأديان لأننا نؤمن بجميع الأديان وبأن مصدرها واحد، وهي واحدة في جوهرها”.

قانون الأحوال الشخصية

لكن التقييد لا يقتصر على كتابة الدين الحقيقي في الهوية، وإنما على كافة المعاملات الرسمية المتعلقة بالأحوال الشخصية، زواج، طلاق، تسجيل أولاد وغيره. جميعها تتم في الأردن وفقا للشريعة الإسلامية وتفرض على غير المسلمين وخلافا لما تنص عليه معتقداتهم الدينية الخاصة بهم.

وتمثل الزيجات المختلطة “أي الزيجات بين أتباع ديانات مختلفة” أبرز إشكالية يواجهها أتباع الديانات لصالح الغالبية السائدة.

فالبنسبة للبهائيين، لا يوجد موانع من زواج البهائي أو البهائية بحسب شريعتهم، من أي شخص من مختلف الأديان، إلا أن القانون في الأردن لا تعتبر البهائية من بين الأديان التي يعرف معتنقوها بـ”أهل الكتاب”، وبالتالي لا يقبل قانونيا زواج بهائية من مسلم أو مسيحي، لأن قانون الأحوال الشخصية مبني على الشريعة الإسلامية، كما يقول فارس.

أما زواج المسيحية من المسلم “الأمر الجائز وفق الشريعة الإسلامية ومقبولا قانونيا”، فيمث إشكالية لدى المسيحيين، وذلك بسبب ارتفاع نسبة مثل هذه الزيجات، فالكتاب الإحصائي السنوي للحكومة، بحسب ما يوضحه “حبش”، يشير إلى نسبة 35% من الفتيات المسيحيات اللواتي يتزوجن من مسلمين.

“ولا تكمن الإشكالية في الزواج من مسلم مبدئيا، وإنما في القانون الأردني “التمييزي”، الذي لا يسمح للوالدين بتربية أولادهما بالديانة التي يرغبان بها، ولا أن يعيشا بحسب الديانة التي يريدان، وبالتالي يكون الأولاد مسلمين تلقائيا، سواء كان الطرف الآخر مسيحيا أو من ديانة أخرى. وهذا ما يشكل على المدى البعيد تهديدا كبيرا للوجود المسيحي في الأردن والمنطقة”، يضيف حبش.

ويؤكد حبش على ضرورة أن تكون هنالك مساواة بين المواطنين، وإعطاء حقوق المواطنة كاملة لأي مواطن. ومن يقرر اختيار دين دون غيره هما الشخصان اللذان يقرران الارتباط برباط الزوجية، واللذان يجب أن يتمتعوا بحق اختيار الدين لهما ولأولادهما.

وهو ما لم يحدث في قصة شاب من خلفية مسلمة اختار الدين المسيحي وتزوج من فتاة مسيحية في المحاكم الشرعية الإسلامية، إلا أن “جهة حكومية” تقدمت بشكوى حوّل الشاب على إثرها إلى المحكمة الشرعية بسبب تغيير دينه، وهو ما يحق لأي شخص بأن يتقدم بشكوى بحقه لتنفيذ حكم “الردة”.

والمفاجئ، كما يروي حبش، أنه تم الحجر على الشاب، وهو التطبيق العملي لحكم الردة، وبذلك ألغيت جميع العقود التي أبرمها الشاب بما فيها عقد الزواج، كما اعتبر “بلا دين” ولا يحق له الدخول بأي دين آخر، ولا يحق له الزواج حتى من “كتابية” إلى أن يعود إلى الإسلام. واضطر الشاب إلى اللجوء إلى الأمم المتحدة والسفر إلى سوريا، وسجلت القضية في الأمم المتحدة ضد الأردن مما أساء لصورة البلد.

الإصلاح الديني

يرجع أبورمان إشكالية حرية التعبير عن المعتقد الديني في المجتمعات المسلمة إلى أن “الإصلاح الديني هو المرحلة التي لم تقطعها الشعوب العربية في ثوراتها، في حين أن الثورات في أوروبا حدثت بعد الإصلاح الديني، بمعنى أن الدين أعيد تفسير بما ينسجم مع روح العصر وتطوراتها وإطلاق فكر الإنسان وحريته وفكرة التسامح الديني والمذهبي. لذلك تبقى المسألة لدينا مرتبطة بالتطور العشوائي للاتجاهات الدينية”.

فالمسألة، وفقا لأبورمان، “مرتبطة بالتطور الذاتي للمجتمع وليس بوجود نخبة من الفقهاء والمفكرين يقومون بعملية إصلاح ديني داخلي لضرب جذور المعتقدات التي تتناقض مع الحريات وتساعد في عملية الديمقراطية، بل على العكس فإن دور هؤلاء الفقهاء والمفكرين في الغلب هو تثبيت الثقافة الدينية السائدة ومنع الخروج عن هذه الثقافة باعتبار ذلك كفر وزندقة”.

ويضيف: “الشعوب تقاد بالعواطف وتتحكم بها العواطف الدينية أكثر من العقلانية الدينية. الناس لا تعنى بقراءة التفاصيل بل تثق بمن يتحدث باسم الدين عموما. والمشكلة الأكبر أن الناس خلطت تقاليدها الاجتماعية بتدينها مثل التناقض في قضايا المرأة”.

ويرجع غرايبة “الدين” و”المدينة” إلى جذر لغوي واحد، “فالدين نشأ في الحضر أو المدن وهو منتج زراعي تجاري. وعندما يحل الدين في المجتمعات الريفية والبدوية، حيث الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله، يصبح حالة خطيرة جدا، يتفاعل السلوك البدوي الريفي مع الدين ليخرج منتجا أخطر من مكوناته الأصلية”.

ويعرف غرايبة “السلفية” بأنها نوع من البداوة التي حل فيها الدين. “فعندما تريفت المدن ونقل الحجاب وغيره إلى المدينة حل التدين الخطير. والحل يكمن في تمدين المدينة عبر الفردانية والتجمع على أساس المصالح والأمكنة. ودون التمدن لن يكون هناك تدين صحيح ولا حريات. ومهما كانت الفتاوى متسامحة مع الحريات لن تجدي ما دام تفكير الناس ريفيا”.

أضف تعليقك