ماذا يحدث لو ولدت فقيراً في الأردن؟

ماذا يحدث لو ولدت فقيراً في الأردن؟
الرابط المختصر

في إحدى محافظات الأردن، جلس طفل ينتظر أخاه ليعود من المدرسة، لا ليلعبا سوياً، وإنما ليتبادلا الحذاء، فيخلعه أخوه الذي جاء للتو من الفترة الصباحية، ويلبسه على عجالة هو للحاق بالفترة المسائية من المدرسة ذاتها. ألم يكن بإمكانهما الذهاب إلى نفس الفترة معاً؟ بلى ولكن من أين لهم بحذاء لكل طفل؟

هذه ليست قصة من نسج الخيال، وإنما قصة رواها المستشار الاقتصادي، والذي يشغل حالياً منصب وزير الدولة لشؤون الاستثمار، د. يوسف منصور، عندما كان يضع دراسة استشارية في تلك المنطقة قبل حوالي أربع سنوات. لا يُعقل أن تكون هذه القصص اختفت تماماً، حتى لو حلمنا بذلك، ولكن السؤال الأكثر إلحاحاً اليوم يتعلق بفرص هذه العائلات على كسر حلقة الفقر والخروج منها!

في حضرة الفقر المدقع

لا تقلق سميرة* من احتمال كشف تفاصيل قصتها لهويتها، فهي تتشابه في هذه الظروف مع الآلاف، إن لم يكن مئات الآلاف من الناس، كما أن أهل منطقتها لا يتابعون المواقع الإعلامية ويكتفون بنشرات أسعار الخضراوات والفواكه على حد تعبيرها!

تصف سميرة وضع عائلتها بالـ”مُعدم”، وما الذي يثبت عكس ذلك؟ تسكن العائلة المكوّنة من ثمانية أفراد في بيت من أولئك الذين تداهمهم الأمطار كما تروي الصحف في كل منخفض جوي، وتوّقف زوجها عن العمل بعد إصابته بعدة أمراض جعلته غير مرغوب لدى أرباب العمل، وهي لم تنهِ تعليمها الثانوي.

 أما تعليم الأبناء، فتلك حكاية أخرى. ذات يوم، قرّرت العائلة الانتقال من منزلها في عين الباشا إلى منزل مستأجر آخر في موبص، وانتقل الأبناء الذكور الثلاثة الأكبر سناً إلى مدرسة جديدة في موبص، ولكن العائلة لم تمكث كثيراً هناك وعادت إلى منطقة سكنها السابق، إلا أن السنة الدراسية لم تكن منتهية بعد وكان على الأبناء الذهاب إلى مدرسة موبص.

تقول سميرة “صاروا يروحوا ويجوا مواصلات، لما أبوهم قعد في البيت، صار ما في دخل يفوت، صاروا يروحوا مشي، ولما يصح لي أخليلهم مصاري مواصلات، لما يكون ما فش، كثر غيابهم، وامتحانات، وتعطلوا عنها، قالوا بدهم يفصلوهم”. بحسب ما تذكر الأم، كل ابن كان يحتاج إلى دينار واحد يومياً للمواصلات والمصروف، فمن أين لها بهذا الدينار يومياً؟

بحجة عدم إنهائهم للسنة الدراسية في تلك المدرسة، لم تقبل أي مدرسة أخرى هؤلاء الأبناء لاحقاً، وكان مدراؤها “جلفين” بالتعبير الشعبي على حد وصف سميرة، ليصطف ثلاثتهم باحثين عن أعمال يومية لا تحقق الحد الأدنى من العيش الكريم.

لم يحالفهم الحظ حينها، فهل يحالف الأشقاء الأصغر سناً؟ رسبت شقيقتهم الأصغر في الدورة الصيفية الأخيرة للثانوية العامة، ولم تتمكّن من التسجيل مرة أخرى لأن العائلة لا تملك 22 ديناراً يوضعون خصيصاً لتسجيلها مرة أخرى في الامتحان وسط قائمة طويلة من الأولويات يأتي على رأسها إيجار البيت، والأكل والشرب وغيرهم. حتى إلى حين تأمين هذا المبلغ بمعجزة ما، لا يمكن لأختهم أن تدرس في المنزل تحضيراً للامتحانات الآن وقد أعيدت الكتب إلى أصحابها الأصليين!

في ظل مصدر دخل واحد يأتي من ابنها الذي يعمل بأجرة يومية تبلغ خمسة دنانير، هل تأمل سميرة أن تخرج عائلتها من هذه الحلقة المفرغة يوماً؟ أو أن تجلس هي يوماً لا تقلق بالإيجار الشهري لمنزل لا يكاد يصلح للعيش البشري كما تصفه هي ويصدّقها الشاهد عليه ومن ثم تملك قوت يومها وغدها بعد أن تشيخ؟ هل يصبح أي فرد من العائلة يوماً موضوعاً لقصة نجاح تملأ مواقع التواصل الاجتماعي تُكتب باسم حقيقي بدل الاسم المستعار؟

تشكّك إحسان* جارة سميرة بهذا الاحتمال، فتقول المزارعة التي انتقلت من الغور إلى عين الباشا قبل ثلاثين سنة بعد أن لم تعد الزراعة مجدية على حد تعبيرها للعامل بمياومة “اللي أبوه زي هيك شو بده يصير؟ شو بده يطلع إذا ما كان لك راسمال”.

تتقاضى إحسان مبلغ رُفع إلى 90 ديناراً شهرياً من المعونة الوطنية بعد أن توفي زوجها الذي كان يرفع الآذان في مسجد الحي، ويحصل على التبرعات من المصلين. بنظرة سريعة على أقاربها ومن ترك الأغوار معها، تقول إحسان أن معظمهم أصبحوا إما عمّال أو ذهبوا إلى الجيش أو أصبحوا سائقي باص أو سيارات أجرة.

برأي إحسان “اللي أبوه مزارع وفقري ومسخم يا دوب ياكل ويشرب.. والله بيضّل هيك، إلا من رحم ربي”.

الابنة الوحيدة التي أكملت تعليمها العالي من عائلة إحسان أخذت قرضاً من صندوق الطالب الفقير، وقد انتهت من تسديده قبل أشهرٍ قليلةٍ فقط. لم يكن أمر القرض سهلاً، حيث طلبوا منهم كفيلاً يملك قطعة أرض، وأكبر ملاك العائلة يملك “نمرة” واحدة في مخيم البقعة يتقاسمها مع شقيقه، فمن أين يأتون بملاك الأراضي؟

على بعد كيلومترات فقط من منزلي السيدتين، لا تشكّل المبالغ المذكورة مصدر قلق للعائلات، ولا يقلق ولد أو بنت من عدم إنهاء تعليمهم بسبب دينار ناقص أو حتى ألف. لا يخفى على مراقب أن “الطبقة الوسطى الأردنية” لا تنفك تتقلّص، فالفجوة بين طفل جدوله اليومي مزدحم بحصص السباحة والبيانو وغيرها وآخر يبحث هو في الزحام عمّا “يعتله” ليدفع أهله الإيجار لا تنفك تكبر!

بحسب دراسة مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، تآكلت الطبقة الوسطى في الأردن وباتت تشكل 29 % من السكان في عام 2010 مقارنة بـ41 % في عام 2008. وبينت الدراسة أن إنفاق وزارة التربية والتعليم على التعليم الحكومي يخفّف من إنفاق الأسر الفقيرة على التعليم، ولكن هذا لا ينعكس بالضرورة على فرص الارتقاء الاجتماعي لهذه الفئات، فـ” الفجوة بين أثرى وأفقر الطلاب في الأردن ما تزال واسعة وسيظل الحراك الاجتماعي social mobility محدوداً ما لم يتم معالجة أوجه النقص في التعليم الحكومي”.

فلنقرّب الصورة وننظر عن كثب على الفرص المتاحة للناس والتفاوت فيما بينهم!

المستوى الأدنى من الهرم أولاً

في عين الباشا، رأينا سميرة وجارتها وهما تتبادلان الحديث عن العجز في تأمين أبسط الحاجات اليومية. في محافظات جنوب البلاد، رأينا نساءً يقترضن من صناديق دعم المرأة لبدء المشاريع المدرّة للدخل، لا ليبدأن مشاريع ناجحة بالفعل وإنما لسداد ديون بسيطة متراكمة على العائلة وحاجات يومية بسيطة أيضاً. بالطبع، هناك من استدانت لتزويج ابن، ولكن لا يخفى على عامل في التنمية أن لسان حال الكثيرات يقول: المستوى الأدنى من الهرم أولاً بما يتوافق مع المنطق!

يستشهد المركز الوطني لحقوق الإنسان في تقريره الأخير حول برامج مكافحة الفقر بتصريحات للناطق الرسمي لمؤسسة الضمان الاجتماعي، حيث يقول فيها أن 73 ألفاً من مشتركي الضمان يتقاضون 190 دينار شهرياً، وهناك 72 ألف مشترك تقل أجورهم عن الحد الأدنى للأجور، وهناك 60 % من متقاعدي الضمان الاجتماعي الذين تبلغ رواتبهم 300 دينار فما دون.

وبحسب مسح آخر لدخل الأسرة ونفقاتها أجرته دائرة الإحصاءات العامة، يتبيّن أن هناك 230 ألف أسرة (أي قرابة المليون فرد من أصل 6.3 مليون عدد سكان المملكة في 2013) دخلها أقل من 350 دينار شهرياً. ويأخذ التقرير على صندوق المعونة الوطنية وجود فجوة بين الحد الأقصى للمعونة، والذي يبلغ 180 دينار شهرياً، أي بمعدل 45 دينار شهرياً لكل فرد بينما خط الفقر المطلق هو 68 دينار شهرياً.

تعليقاً على هذه الفجوة، قالت مديرة صندوق المعونة الوطنية بسمة اسحاقات أن هذه الفجوة هي أكبر مشكلة تواجه الصندوق حالياً، حيث أن المعونة في التجربة العالمية تغطي 77 % من قيمة خط الفقر المطلق، ولكن الصندوق بموازنته التي تبلغ 92 مليون دينار لا يستطيع تغطيتها لـ250 ألف أسرة يستفيدون حالياً من خدماته.

برأي اسحاقات، عند تقييم نجاح الصندوق في مساعدة الناس على تأمين حاجاتهم الأساسية يجب النظر إلى “الشق الأول حيث كان هناك دراسة للبنك الدولي تفيد أن نسبة الفقر ستزيد ما بين 1.5 إلى 3 % لو انسحب الصندوق. أما الجانب الثاني، فمش مرتبط بالصندوق، وإنما بخط الفقر نفسه. 68 دينار ما بتعيّش فرد لمدة شهر، هناك إشكالية في المبلغ فهو مبلغ قليل، ولكن حتى الـ68 دينار مش قادرين نغطي 77 % منها وهذا يحد من فعالية الصندوق”.

رغم تأكيد اسحاقات أن الصندوق لا يحرم عائلة فيها ابن فوق سن الثامنة عشرة من المعونة، إلا أن سميرة كانت قد راجعت الصندوق في السابق، مرة حين كان ابنها دون سن الثامنة عشرة وقيل لها أن الأولوية للأيتام، ومرة بعد أن بلغ هذا السن وقيل لها أنها لا تلبي الشروط أساساً طالما أن ابنها معها في دفتر العائلة ذاته. ولكن أحداً لم يعرف ما حل بهذه العائلة، وكيف حرم الابن البكر وأشقاء اثنين له من التعليم لأجل دينار.

وزعم تقرير المركز الوطني المذكور آنفاً أنه رغم وضع “وثيقة الأردن 2015: رؤية واستراتيجية وطنية” و”الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفقر للسنوات 2013-2020″ إلا أن “تلك الخطط والاستراتيجيات بقيت مجرد وثائق بسبب عدم تخصيص موازنات لها” وأن أعداد الفقراء في ازدياد.

بعد المستوى الأول: ماذا عن فرص كسر الحلقة؟

لو افترضنا أن الحاجات الأساسية قد لُبَّت، وتمكنت العائلة الفقيرة من إرسال أبنائها للمدارس حتى التخرج منها. فهل تستوي بعد ذلك فرصهم مع غيرهم ليكسروا الحلقة؟

تنشط في الآونة الأخيرة أصوات كثيرة تنعت كل شخص متذمّر عاجز عن تحسين وضعه الاقتصادي بـ”الكسول”، وكأن طريق النجاح مفروشة أمامه بالورود وهو يختار عن سبق إصرار أن يدير ظهره لها. بيد أن الواقع مختلف، وقصص النجاح التي تُعَّد على الأصابع لا تعني أن حال مجتمعات كاملة بخير!

ممّا رصدت في عملها، على الأقل في عمّان، تقول الكاتبة في منصة ومضة التي تختص بشؤون الريادة والابتكار تالا العيسى أن هناك ثلاثسمات تجمع بين مشاهير “الوسط الريادي العمّاني” وهي “أوّلاً يتكلّمون الإنجليزية بطلاقة مما قد يشير إلى أنّهم من مدارس و جامعات خاصة، ثانياً مهاراتهم الحاسوبية والتقنية جيّدة جداً وهذا طبعاً يتطلب النفاذ إلى حواسيب وإنترنت، وثالثاً باستطاعتهم تحمّل خسائر المُخاطرة إن فشل مشروعهم، أي أنهم يملكون الموارد الكافية التي تُمكنهم على سبيل المثال من تخصيص وقت كاف قد يؤدي في بعض الأحيان إلى الإستقالة من العمل، في سبيل تطوير فكرتهم التي قد لا تنجح. هذا لا يعني بتاتاً أنّ شخصاً لا يملك هذه الصفات بالضرورة ألا ينجح و لكن الأمر أشبه بالانتقاء الطبيعي”.

إن ما تعتقد العيسى أنه أمر “مبالغ به جداً” هو الترويج لفكرة أنّ الريادي هو شخص عاطل عن العمل استطاع أن يخلق فرصة عمل لنفسه بجهده وتعبه، فالأمر لا يتعلق بالجهد بقدر الامتيازات المتوفرة”. وتضيف بأن “معظم الرياديين الذين قابلتهم لم ينشؤوا شركاتهم لأنهم عاطلين عن العمل، بل لأنهم يشعرون بالملل من وظائفهم التقليدية المُستقرّة ولا يجدون أنفسهم فيها”.

من جهتها، تقول خبيرة التعليم وعميدة كلية اللغات والاتصال في الجامعة الأميركية في مادبا د. وفاء الخضرا أنه “إذا انولد بعائلة فقيرة، كثير صعب يطلع من الحلقة، أولاً عم يصير السوق كثير تنافسي، وفي المشاريع الناشئة والريادة، وهذا كله بدك إعداد كبير لحتى توصل هاي المرحلة وتنافس معهم، التسارع الكبير والتنافسية العالية عم بيخلوا فرص الفقير كثير أقل، لأنه الموارد عم بتشح والتعليم عم بيسوء”.

تطول قائمة أسماء الأعلام الأردنيين وأبناء الطبقات الميسورة الذين تخرّجوا من مدارس حكومية قبل عقود، لأنها كانت تجمع خيرة المعلمين ذات يوم، ولكن يصعب تحديد اسم واحد من هؤلاء يرسل أبناءه إلى مدرسة حكومية في الحي الذي يسكن فيه اليوم!

عندما تكون الخضرا عضواً في لجان التحكيم لاختيار المستفيدين من البعثات، والذين بطبيعة الحال تكون فرصهم أفضل عند العودة، أو الوظائف التي تصنفها على أنها تتطلب القدرات الفكرية المتقدمة، فإن “اللي بيحصدها هم اللي جايين من مدارس خاصة، اللي بتعلمهم كيف يحكوا صح، كيف يقدموا حالهم صح”.

الكثير من هذه الفرص تتطلب، بحسب الخضرا، مستوى معين من اللغة الإنجليزية إضافة إلى امتحانات الـSAT وGRE وغيرها من الشروط التي يعد طالب المدرسة الخاصة الأقدر على تلبيتها.

وتضيف الخضرا أن “خريج المدرسة الخاصة وخصوصا اللي دخل برنامج دولي بيكون أقرب إلى تلبية مهارات سوق العمل من خريج المدرسة الحكومية. في تقرير المعرفة العربي لعام 2010/2011، ركز الباحثون على طلبة المدارس الحكومية واكتشفوا أنه خريج المدرسة الحكومية عنده فجوة مهاراتية ومعرفية وعلمية كبيرة جداً هي اللي عم تعمل مشكلة في سوق العمل. عم يضطر سوق العمل يلجأ للعمالة الأجنبية أو خريج البرامج الدولية لما يتعلق بالموضوع بالقدرة الفكرية، وبيجوا مستشارين أو رؤساء تنفيذيين أو مدراء”.

تتفق مديرة المدرسة الأهلية للبنات العين هيفاء النجار مع الخضرا في طرحها، وتقول أن الأردنيين بفترة ما “كنا فاهمين التنافسية، ما عنا بترول، بس بدنا إنسان متميز.. فقدنا الحلم، حلمنا اللي كان مبني على الإنتاجية، والعرق والتعب، والنوعية، النظام التربوي اللي فيه شغل ولغة عربية جميلة وإنجليزية نوعاً ما جيدة، فقدناه”.

وتحمّل النجار الجميع مسؤولية الفشل الذي وقع به النظام التعليمي فتقول أن هذا “فشل لمدارس عمّان الغربية، دائماً لازم يكون في مجموعة بتحمل فكر.. فشل النظام التعليمي العام، أنا بدي أقدّم نموذج وأساعده. عملنا مدارس خاصة، جابت برامج دولية ممتازة، ولادنا راحوا على هارفارد بس بيعرفوش يحكوا عربي منيح.”

وتضيف أن هناك مدارس خاصة متميزة جداً، ولكنها لم تبنِ جذوراً حقيقيةً مع المجتمع الأردني، بل “بالعكس عملت عزلة.. طالب منهم بيعمل خدمة مجتمع بتانزانيا.. روح على معان يا ابني.. روح على حي النصر!”

الطريق لتضييق الفجوة قليلاً..

لا شك بأن هذه الفجوة تكاد توجد في كل دول العالم، المتقدمة والنامية على حدٍ سواء، حتى أعطاها الاقتصاديون اسماً كما قال أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا جوزيف ستيغليتز عندما خرجوا بمصطلح “الاقتصاد المزدوج”، فوصفه ستيغليتز بأنه “مجتمعان يعيشان جنباً إلى جنب، ولكنهما بالكاد يعرفان بعضهما البعض، وبالكاد يستطيعان تصوّر شكل الحياة في المجتمع المُقابل”.

ليس الهدف هنا شيطنة فئة وتقديس أخرى، وإنما الأمل ألا تنعدم فرص من لم يحالفه الحظ في ولادته، وكان مولوداً في المكان غير المناسب للعائلة التي تنتمي للطبقة غير المناسبة، وأن يبقى لديه فرصة في الحياة الكريمة والتطوّر وكسر الحلقة.

إذا أردنا أن نبدأ غداً في تضييق الفجوة، تقول الخضرا أننا يجب أن نكف عن استهداف “نخبة النخبة”، وأن تتجه جميع الصناعات، والجهات ذات القدرة المالية إلى تأدية مسؤوليتها المجتمعية الحقيقية بتدريب جميع طلبة المدارس من كل المحافظات على مختلف المهارات المطلوبة. كما كانت قد اقترحت سابقاً “سنة تأسيسية في الجامعات الأردنية كلها العامة والخاصة، عشان تقدر تردم الفجوة المهاراتية المعرفية، صح مدتها سنة، بس أنت بتعيد تأهيله”.

ولكي لا ننسى دور شبكة المواصلات العامة، والتي يُعزى 40 % من أسباب عدم مشاركة المرأة في سوق العمل إلى تدني مستواها، يقول مستشار النقل حازم زريقات أنها تؤثر على تكافؤ الفرص فـ”هناك أمثلة عديدة على أشخاص لم يلتحقوا بوظيفة بسبب المواصلات.. وهنالك العديد من الحالات التي يصعب توثيقها لأن الشخص لم يتقدّم أصلاً للوظيفة” وقد يكون السبب في أنها “في منطقة يصعب الوصول إليها بنظام النقل العام”.

بحسب زريقات، فإن حملة “معاً نصل” الشعبية المعنية بتحسين نظام النقل العام أصدرت أول خريطة للمواصلات العامة في عمّان، ومن ِشأن توفير المعلومة للمستخدم أن تفتح المجال أمامه أو على الأقل تسهل عليه الوصول إلى عدد أكبر من الفرص.

كما أن الحل الآخر غير المكلف نسبياً يتمثل في “تفعيل القانون بشكل صارم على خدمات النقل القائمة، فبضمان مستوى خدمة معين من الترددات، واستيفاء الأجور حسب القانون، ومستوى نظافة وراحة عاليين، والتزام بمسار الخط.. تصبح خدمات النقل العام مرغوبة وفي متناول عدد أكبر من الناس”.

هذا إن أردنا أن نبدأ غداً، ولكن تظل كل هذه الحلول قاصرة ما لم نتحدّث عن الداء الأكبر الذي لا يُعالج بين ليلةٍ وضحاها، أي طبيعة النظام الاقتصادي وعلاقته بالنظام السياسي في البلاد، وحاجة الدولة في السابق لبناء علاقة أبوية ريعية مع المواطنين.

قبل سنوات، كتب المهندس أحمد حميض مقالاً يشرح فيه الكلمة الغائبة عن كل خطابات العدالة الاجتماعية، حيث افتقرت برأيه إلى الدعوة إلى “الثورة الإنتاجية” التي تنتشر بموجبها آلاف المشاريع الإنتاجية في الخدمات، والزراعة، والصناعة، وكل القطاعات وفي كل محافظات المملكة، بحيث تتوّفر أدوات الإنتاج بين أيدي الجميع، فلا يعود أحد يعتمد على دولة ريعية بنظام اقتصادي غير مستدام ليحيا حياةً كريمةً.

بالطبع، ما زلنا نراوح مكاننا إن لم تزداد المهمة صعوبةً، فلا بأس من الاقتباس من المقال المذكور أعلاه وصفاً لحلم لا زال بعيد المنال:

“ هذا المشروع الديمقراطي لمجتمع الإنتاجية سيخلق هوية وطنية أردنية تجمع الناس حول ما يصنعون ويبدعون سوياً، وهي هوية تختلف جذرياً عن محاولات خلق هوية أردنية فولكلورية أو شوفينية، تبحث في الأصل والفصل.”

*مصدر الصورة: موقع رؤيا الإخباري

أضف تعليقك