يترقب الأردن بحيطة وحذر في ما إذا كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب سينفذ تغريدته المفاجئة بسحب قوات بلاده من سوريا، وترك الأمر للآخرين، في تناقض مع سياسة وزير دفاعه جيمس ماتيس وكبار مسؤولي وزارة الخارجية؟
لم يتأكد الأردن الرسمي بعد إن كان ترامب قد غيّر رأيه بالفعل حيال "ملف حيوي لأمن بلاده"، بعد انتهاء الحرب على "داعش"، وإن كان سيتراجع عن قرار واشنطن زيادة عديد قواتها في المناطق الشمالية الشرقية المحاذية لحدود العراق وجزء من الأردن عبر قاعدة التنف الصحراوية، لكبح جماح التنظيمات الإرهابية في غمرة الشدّ الديبلوماسي المتناسل بين واشنطن وموسكو.
لكن الحذر الأردني واجب. فالمملكة و"قوات سوريا الديموقراطية" ذات الغالبية الكردية ستكونان الأكثر تضرراً، في حال صدق ترامب. كما ترعى واشنطن وموسكو اتفاقية منطقة "خفض تصعيد" على الجبهة الجنوبية لسورية والمحاذية للأردن منذ 8/11/2017. تحويل منطقة خفض التوتر إلى منطقة استقرار تشجّع على عودة اللاجئين من الأردن، حتى التوصل إلى حل سياسي في سوريا تقبل به جميع الأطراف، يبقى هدفاً استراتيجياً للأردن.
تصعب قراءة أولويات ترامب، لأنه يقيس الأمور من باب الخسارة والربح. كما يتزامن إعلان ساكن البيت الأبيض مع تسريبات نشرتها صحيفة "واشنطن بوست" عن اتفاق أميركي- سعودي، تدفع المملكة بموجبه أربعة مليارات دولار لترتيبات ما بعد الانسحاب. ضبابية المشهد تكمن أيضاً في غموض موقف واشنطن– حدود التواطؤ- من عملية "غصن الزيتون"، التي تشنّها تركيا على "قوات سوريا الديموقراطية" في شمال سورية، بعد أن كانت تراهن على دعم واشنطن. لم تعد الثوابت الأميركية واضحة. التخبط في السياسات سمة الموقف. وهناك من يربط بين قرار ترامب مع التخطيط لفتح جبهة عسكرية أخرى مستقبلاً، قد تكون ضد إيران وحلفائها، وسط تنامي إمكان انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي خلال أسابيع. وربما من أجل ذلك، يسعى ترامب إلى حماية قواته من التحول إلى أهداف متحركة للميليشيات المدعومة من إيران، في حال اندلعت حرب مع هذا البلد وكانت سوريا إحدى جبهاتها.
تغريدات ترامب الصادمة باتت سلوكاً معهوداً، كلّما اتخذ قرارات جديدة من دون أن يترك لمن حوله ولشركائه فرصة للنقاش أو تغيير المحتوم. وربما قرّر فعلاً تنفيذ وعوده الانتخابية التي أوصلته إلى السلطة، وعنوانها الأبرز الانكفاء إلى الداخل والانسحاب من التدخلات العسكرية ووضع مصالح شعبه فوق كل شيء.
إعلان ترامب الأخير متناقض مع موقفه المتشدد من تضييق الخناق على إيران وتحجيم نفوذها عبر البوابة السورية. كما يضرب بعرض الحائط إنجازات بلاده في دحر "داعش". فخلال الشهور الماضية عادت خلايا داعشية في جيوب تركتها "قوات سوريا الديمقراطية"، منذ انخرطت في مقاومة اجتياح القوات التركية منطقة شمال سوريا، بحسب مصادر ديبلوماسية في عمان. تزيد من تعقيد المشهد كثرة "الطبّاخين" إقليمياً ودولياً، المتحكّمين في "طبخة" سوريا، وتداخل أجنداتها على الأرض.
ليس واضحاً بعد من هي الجهة/ الجهات التي ستملأ فراغ انسحاب 2000 جندي أميركي، يتمركزون في منطقة شمال شرقي سوريا، الغنية بحقول النفط في حال صدق ترامب بوعده؟ هل ستكون روسيا المسيطرة على أجواء سوريا، أم الإيرانيون، أو الأتراك أم دول خليجية، مثل السعودية، الإمارات وقطر؟ لكن ربما تكون إيران المستفيد الأكبر من خروج القوات الأميركية من سوريا، بعد أن بسطت نفوذها في العراق. وقد تتحول سوريا إلى منطقة نفوذ روسي بحت، خارج الهيمنة الأميركية.
بوادر التغيير، برأي ساسة في عمان، ستظهر بعد اجتماع مجلس الأمن القومي الأميركي في البيت الأبيض، أوائل الأسبوع المقبل.
لكن تصريحات ترامب تشكّل مصدر قلق مشروعاً لعمان، وقد تتحول إلى سيناريو رعب في الشرق الأوسط، وفق قول أحد المسؤولين في حديث لـ"درج".
في خضم هذه السيناريوهات والنقاشات المبهمة قال وزير الخارجية أيمن الصفدي قبل أيام إن أولوية عمان أن تعمل بالتنسيق مع الولايات المتحدة وروسيا للحفاظ على منطقة خفض التصعيد المحاذية للأردن وأنها ستتخذ كل ما يلزم من خطوات لحماية أمنها ومصالحها الوطنية.
تريد عمان من واشنطن تنفيذ الضمانات التي أعطتها عقب هزيمة "داعش" بأنها ستبقي قواتها المنتشرة في المناطق الشمالية الشرقية لعام أو عامين، بينما تدرّب "قوات سوريا الديمقراطية" وتسلّحها، وتشارك في وضع ترتيبات إعادة الأعمار.
ومصلحة الأردن تكمن في منع تمركز تنظيمات إرهابية متشددة بالقرب من حدودها الشمالية، في درعا والقنيطرة وباقي المحافظات الجنوبية وأريافها التي تصل إلى مشارف دمشق. ولذلك اعترضت عمان أخيراً على اقتراح بأن يتم نقل مقاتلي "جيش الإسلام" وعائلاتهم من الغوطة الشرقية إلى درعا، بحسب مصادر رسمية وديبلوماسية وبدأت عملية نقل هؤلاء إلى جرابلس في الشمال.
تعتبر عمان الاتفاق الثلاثي إنجازاً ديبلوماسياً وأمنياً منذ توقيعه في 8/11/2017 وهو الأنجح بين أربع مناطق، بسبب علاقات عمان الجيدة مع ضامنيه- موسكو وواشنطن.
في هذه الأثناء، يترقب الأردن تداعيات محتملة لما بعد سيطرة الجيش السوري المدعوم روسياً وإيرانياً، خصوصاً "حزب الله" اللبناني، على غالبية مدن الغوطة الشرقية من دون أن تلتفت دمشق إلى قرار مجلس الأمن الدولي بفرض هدنة. دوما الوحيدة الباقية خارج سيطرته في هذا المحيط.
القضاء على أكبر معقل للمعارضة المسلحة والجماعات المتشددة في خاصرة دمشق قد يشجّع الرئيس بشار الأسد على التقدم جنوباً من أجل تطهير هذه المنطقة وبسط نفوذه، وربما إعادة فتح معبر نصيب الحدودي مع الأردن. وليس من المستبعد أن يعيد النظام السوري استخدام استراتيجية مشابهة لتقطيع الغوطة الشرقية، من خلال تقسيم درعا إلى جيوب منعزلة ومحاصرة أجزاء منها بهدف تحييد المقاومة المسلّحة تدريجياً، من دون استفزاز إسرائيل المتأهبة.
لكن على النظام السوري الذي يعمل ضمن سياسة "القطعة قطعة" لاسترداد قوته وسيطرته بدعم روسي وإيراني، أن يفاضل بين التوجه جنوباً أو شمالاً صوب إدلب والرستن بين حمص وحماه، بعد أن يوسع دائرة الحماية حول العاصمة أولاً ومن خلال بسط السيطرة على مخيم اليرموك والحجر الأسود.
الاتفاق الثلاثي عزز إجراءات اتخذها الأردن خلال السنوات الماضية لحماية حدود الأردن الشمالية، بعد أن اتكأت عمان على سوار حدودي إلكتروني بتمويل أميركي، وتعزيزات عسكرية أردنية سمحت له بمسح المنطقة في محيط درعا وريفها بعمق 100 كلم مربع. الاتفاق الثلاثي كرّس ترتيبات أردنية- قائمة منذ اشتعال الحرب على سوريا- مع جماعات محلية مثل "الجيش السوري الحر"، عشائر ولجان شعبية ساهمت في إيصال المساعدات الإنسانية إلى "الأيدي الصحيحة" لحفظ كرامة الناس. كما ساهمت الطلعات الاستكشافية للطيران الإسرائيلي على طول الحدود الشمالية للمملكة في رصد أي تحركات غريبة ومنع حدوث اختراقات كالتي حدثت في مناطق أخرى. كما شارك الأردن في عمليات أمنية استباقية على الجبهة الجنوبية أفضت إلى إحباط قرابة 45 عملية، كان "داعش" يخطّط لتنفيذها خارج الأردن العام الماضي، ضد قوى غربية شاركت في الحملة العسكرية للقضاء عليه.
فأي تغيير محتمل لترتيبات الاتفاق الثلاثي بعد معركة الغوطة قد يفتح الباب أمام تدفّق سيل من التنظيمات الإرهابية المسلّحة مثل "جيش خالد بن الوليد"– أحد مبايعي تنظيم "داعش" الإرهابي- المدجّج بأسلحة ثقيلة على غرار الجيوش النظامية، وكذلك تنظيمات متطرّفة أخرى توالي جبهة النصرة. إضافةً إلى ذلك، ثمّة خطر من أن يعيد مسلحو "داعش"، الذين هزموا في العراق، ترتيب صفوفهم في بطن الصحراء على جانبي الحدود السورية والعراقية.
كما يحمل وقف العمل بالهدنة مخاطر عديدة، بما فيها موجة لجوء جديدة من درعا باتجاه المملكة، انتقال المواجهات المسلّحة إلى جوار الأراضي الأردنية في حال حوصرت المعارضة السورية هناك. وقد يفضي الالتحام العسكري إلى تفكيك الجبهة الجنوبية والجيش السوري الحر. في غمرة هذه المآلات، ستُفتح الأبواب أمام انتقال عناصر وربما تنظيمات لتأييد القاعدة أو "داعش"، في غياب تدخلات إقليمية لإنقاذهم.
في المحصلة، يشكّل الانتصار الأخير في الغوطة الشرقية ودوما نقطة تحول مفصلية ستؤثر في مستقبل المعارضة السورية ككل، على غرار ما حصل بعد معركة تحرير حلب. وثمّة خشية من أن يتحول الجنوب السوري إلى ساحة صراع مستقبليّ بين واشنطن وإسرائيل من جهة، وروسيا وربما إيران من جهة أخرى؟