لم يتغير الوضع كثيراً في الأردن، منذ بدأتُ حياتي المهنية مراسلةً صحفية في وكالة الأنباء العالمية "رويتزر" عام 1988 وحتى اليوم، فنحن مازلنا أمام مشهد سياسي محلي وإقليمي شديد التعقيد بسبب قدر بلادي وموقعها. اكتنفتْ تلك الحقبة تداعياتٌ اقتصادية- مالية، زادت من وطأتها قسوة الأحكام العرفية، التي كمّمت الأفواه، وسمحت للعديد من المسؤولين بالتعامل مع الشعب كـ"أتباع"، وإدارة مواردنا المالية وكأننا نتربع فوق بئر نفط لن ينضب. آنذاك، بادر الملك الراحل الحسين بن طلال، لإطلاق مسار ديمقراطي نسبي، وفتح قنوات تعبير، لدرء المخاطر الناجمة عن انسداد أفق الاقتصاد.
ثلاثة عقود مضت تعمّق خلالها الفقر، واستفحلت البطالة وعادت عقارب الساعة، لكن هذه المرة من دون أحكام عرفية.
كم يترحم بعضنا الآن على أيام الأحكام العرفية!
لماذا؟ لأن أدوار الحكومة والبرلمان والمؤسسات الأمنية كانت واضحة المعالم، إلى جانب المجتمع المدني والإعلام الرسمي. جميع الأحزاب السياسية كانت ممنوعة منذ عام 1956 باستثناء التيار الإسلامي، الذراع التي ساعدت النظام على مقاومة المدّ القومي والشيوعي واليساري المناهض للملكية.
كان الرأي الآخر ممنوعاً، ومن شذّ عن الطريق نال العقاب: سحبُ جواز سفر، وطرد من العمل، أو الاعتقال. كان دور كل من وزير الإعلام، ورئيس قسم الإعلام في الديوان الملكي واضحاً ويعكس "الحد الأدنى" من رواية رسمية متماسكة، وإن كانت بلغة خشبية. كان المواطنون يخشون طلبات الاستدعاء إلى المحافظ/ المتصرف. لم يكن هناك منصّات دردشة رقمية، فكان التحكم بالرأي العام يتمّ بسهولة عبر وزير الإعلام.
"كانت السلطة تعيش حال إنكار وكأنها دولة نفطية تربت على شرب الشمبانيا وأكل الكافيار، مع أن مقدرتها الفعلية أكل الحمص والفلافل وربطة خبز وكوب شاي". هذا ما قاله لي، أحد كبار مستشاري الملك الراحل الحسين، عندما زرته منتصف 1988 لفهم سياق الوضع الإقتصادي الآخذ بالتدهور في ظل حكومة زيد الرفاعي، التي وضعت الأردن على سكة وعود الإصلاح الاقتصادي، عبر بوابة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. تزامن ذلك مع انهيار سعر صرف الدينار، وإضطرار الحكومة لرفع أسعار المحروقات، وبعض السلع والخدمات، ما حرّك الشارع في طول البلاد وعرضها (هبة نيسان/ابريل 1989).
مع الهبّة، طارت حكومة الرفاعي. ومهّدَ الملك الراحل الطريق، صوب الديمقراطية بإلغاء الأحكام العرفية، وتوسيع قاعدة صنع القرار، عبر عقد أول انتخاباتٍ تشريعية، منذ خسر الأردن الضفة الغربية عام 1967. حال الإنفراج تلك لم تدم أكثر من أربع سنوات، إذ بدأت الردّة الرسمية، على عملية الإصلاح لتجهيز الأرضية الشعبية، لقبول معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1994 دون أدنى معارضة. وهكذا فرض قانون إنتخابي جديد، عماده الصوت الواحد، لتقليص نفوذ التيار الإسلامي. تدريجياً تحول النائب من نائب وطن، إلى نائب حارة وخدمات وتنامى الفساد والإفساد.
اليوم، ندفع ثمن فشل الحكومات في مواجهة التحديات المدنية الحديثة، سواء كانت سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو تعليمية أو صحية. تجاهلت السلطة الوعود بإحداث إصلاحات، تارة باسم حماية الأمن القومي، والنسيج الإجتماعي، والجبهة الداخلية، وتارةً أخرى لضرورات التعامل مع التحديات الإقليمية، وخطر الإرهاب، وتارةً لأن المجتمع ليس جاهزاً للعبة الديمقراطية.
اليوم، يتعين على الشعب الخضوع لقرار الحكومة الأخير، لإنقاذ الأقتصاد وزيادة العوائد المحلية، بعد تراجع المساعدات الخارجية وانحسار الإيرادات. آخر الصدمات، كانت رفع الدعم عن الخبز، وفرض ضريبة مبيعات على 170 سلعة غذائية جديدة، من بينها الطون والسردين والبصل والثوم والخيار. وقريباً سترفع الضريبة على المحروقات. صلفُ السلطة التنفيذية شحنَ أصوات أبناء وبنات المحافظات المهمّشة، وانتشرت دعوات غير تقليدية للتحرك نحو اسقاط الحكومة، كما وقعت سلسلة عمليات سطو مسلح على مصارف. قبل أيام، حاول أب الانتحار إلى جانب ولديه، بعد أن يئس من مطاردة لقمة العيش. الغالبية غاضبة لأن الحكومة غاصت في جيوبهم المثقوبة، لتفرض عليهم دفع ثمن الوضع الإقتصادي المتدهور، الذي تسبّبت به أصلاً، من خلال مشاريع "بهورة" وسياسات قاصرة، وتناسل الفساد أفقياً وعمودياً في مؤسسات رسمية.
بعد ثلاثين عاماً، لم يتخرج الأردن من برنامج الإصلاح الاقتصادي، ولم تترجم الوعود بحكومة برلمانية ننتظرها منذ خمس سنوات. خضع الدستور لتعديلين منذ 2011؛ الأول إيجابي مع هبوب رياح ما سمي بالربيع العربي، والثاني كدّس جميع السلطات بيد الملك عبدالله الثاني. تآكلت حدود الولاية العامة للحكومة، وبات الشعب يشكو إليه مباشرة، وتم تدجين الإعلام. إطلالة على الصفحات الأولى لجميع الصحف (عامة وخاصة) تكشف الوضع: تشابه في الصور والمنشيتات والأخبار. غالبية كتاب الرأي يشكون من تنامي الرقابة الذاتية، ومقصّ رئيس التحرير.
لا نزال نتنقل بين بيع جزء من ديوننا، أو السعى لشطبها، كما حصل بعد معاهدة وادي عربة عام 1994، أو جدولة الفوائد وأصول الدين، مقابل قروض طويلة الأمد بفوائد منخفضة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بشرط التزامنا بإصلاحات اقتصادية عميقة وحقيقية وبهيكلة السياسات المالية. لكننا لم نتخرّج بعد، وظلّ الشعب يدفع ثمن "ترقيع" الموازنة دون أن نحدث إصلاحاتٍ هيكلية.
وكلما تحسن الوضع الإقتصادي نتيجة طفرة في سوق العقارات أو السوق المالية، مثلا، كانت الحكومات تغضّ النظر عن الإصلاحات، قبل أن تعود حليمة لعادتها القديمة.
بين اليوم وغداً، لن يتغير شيء، طالما أن قواعد اللعبة السياسية الداخلية وأدواتها متكلسة. الثابت الوحيد هو أنه ومنذ نشأته عام 1921، يعيش الأردن الحديث حالاً استثنائية معقدة، بفعل موقعه الجيو-سياسي، وسط جوار مضطرب خلخلته الحروب، الويلات والأزمات. وبذلك، خاض صراع البقاء في مسعى لـ "الطوف" فوق مياه هائجة، يتخللها خطوات صغيرة صوب الإنفتاح السياسي والإقتصادي في استجابة خجولة، لمطالب المانحين، أو محاولة لامتصاص احتقان الشارع؛ كما حدث عام 1989 و2011-2012.
منذ أيام الرفاعي والحكومات تكابر وتقترض من البنوك، لتغطية الإنفاق غير المنتج في أحيان كثيرة، ولتعويض تغييب المساعدات العربية الموعودة.
كسابقاتها، كانت حكومة الرفاعي تُسكت من ينتقد سياساته،ا مستغلّة الأحكام العرفية. كان مراسلو المؤسسات الإعلامية الأجنبية التي تجرأت واستشرفت الركود الاقتصادي وقتها، ينعتون بالعملاء وأصحاب أجندات. الإعلام الرسمي عتّم على هبة نيسان/ابريل 1989 ليومين، قبل أن يقيل الملك الراحل الحكومة. اليوم يتعرض الإعلام التقليدي والجديد، لتدخلات من ثمانية أطراف، بخاصة بعد أن قبر الأردن وزارة الإعلام قبل أكثر من عقد. بقايا الإعلاميين المستقلين يُنعتون اليوم بالمرتزقة، أو بالساعين لتدمير منجزات الوطن. الحصول على معلومات مهمة مستحيلة، إلا لمن قبل ان يندمج في اللعبة للحفاظ على مكاسبه الشخصية.
منذ 2009، تهرّب معظم رؤساء الوزارات من إعادة هيكلة القطاع العام، المترهل وسنّ قانون ضرائب جديد لتحقيق العدالة، ومحاربة التهرب الضريبي المستفيد من سرية الحسابات المصرفية في المملكة .
رئيس الوزراء الأسبق سمير الرفاعي، إبن زيد الرفاعي، يبقى ربما الوحيد الذي حاول تطبيق إصلاحات اقتصادية موجعة، على غرار ما يحدث اليوم، لأنه كان مؤمناً بضرورة ذلك. لكن حظّه لم يسعفه مع اشتعال الربيع العربي، وتسارع حراك الشارع الأردني المطالب بإصلاحات سياسية، والتراجع عن رفع الأسعار. من جاؤوا بعده، حاولوا التغيير قليلاً، لكنهم لم يواصلوا نهج الإصلاح، بسبب ارتفاع الأكلاف السياسية لهذه القرارات. ثم تفجّرت قبل أربع سنوات كارثة ديون شركة الكهرباء العابرة للحكومات بعد توقف الغاز المصري، بالتزامن مع ارتفاع أعباء استضافة اللاجئين السوريين، ونضوب المنح العربية، وتفاقم حجم الدين الداخلي والخارجي بنسب خطيرة.
وانفجر برميل البارود في وجه رئيس الحكومة هاني الملقي، بعد أن أجل استحقاقه سلفه عبدالله النسور عندما اقترض 1.3 مليار دينار، دون أن يتقدّم بملاحق موازنة، وفق ما أعلن الملقي أمام مجلس النواب. على أن النسور ينفي ذلك في الغرف المغلقة. بقاء الملقي في المنصب كان مرهوناً بتنفيذ حزمة رفع الأسعار وفرض ضرائب قاسية.
قريباً، سترتفع المحروقات بالتوازي مع تفاقم الشعور بالغبن لدى الناس. وتتساءل غالبية الأردنيين فيما إذا ستواصل الحكومة تعهدها، بصرف تعويض نقدي شحيح بدل رفع الدعم عن الخبز في المستقبل، كما حصل مع وعود دعم المحروقات (2013-2014).
وبعد أسابيع سيوافق مجلس الأمّة على مشروع قانون جديد لضريبة الدخل بما يحمله من خضّات، منها تقليل حجم الإعفاءات. وثمّة توقعات بأن تتضاعف نسب التضخم مع نهاية 2018 لتصل إلى 15% بحدّها الأدنى.
الزيادات الأخيرة مرعبة. فاقم من حدّتها الوضع الإقليمي المفتوح، على احتمالات شتّى، بعد قرار دونالد ترامب حول القدس المجافي للشرعة الدولية، وتلاقي مصالح إدارته مع حلفاء تقليديين للأردن، تغيّرت أولوياتهم من تسوية القضية الفلسطينية، إلى كبح نفوذ إيران. ومرةً أخرى، أضطر الأردن إلى وقف التصعيد مع واشنطن وحلفائها العرب الجدد، بعد أن استشعر مخاطر عقاب قادم.
اليوم، انكشف ظهر الأردنيين ولم يبق لهم إلا الدعاء. تجلّى لون مجلس النواب الذي تواطأ مع الحكومة، في تمرير القرارات الصعبة الأخيرة بفترة نقاش قياسية لم تتجاوز ست ساعات.
بنود الموازنة الحالية صعبة ومحدودة، ومخصصات المؤسسات الأمنية والعسكرية وصلت في عصر الإرهاب الداعشي، العابر للحدود إلى حوالي 30 % من الموازنة، مع أن بعض هذه المؤسسات يمرّ بمرحلة إعادة هيكلة، وميزانياتها خارج مراقبة البرلمان. ويُرصد نحو 10% فقط لخدمات التربية والتعليم والصحة، فيما تذهب أكثر من نصف الموازنة لرواتب موظفي القطاع العام المتضخم، ورواتب التقاعد الحكومي. هذه صفعة أخرى لغالبية من يعتمد على التعليم الحكومي، والعلاج في وزارة الصحة. في المقابل، لم تُمسّ غالبية المؤسسات المستقلة، التي وعدت الحكومات السابقة بدمجها، لتخفيض كلف تشغيلها المقدرة ب 1.8 مليار دينار سنوياً، لأن الاقتراب منها سيفتح "عش دبابير". وضعٌ فرض شعوراً عارماً بالاحتقان ازاء الحال العام، ويغلب على الأردنيين إحساسٌ بأنهم، "مسخمين" كما يقول التعبير المحلي.
مجلس النواب أخرج نفسه من لعبة السياسة المحلية، وأضر بدوره الرقابي، متجاوزاً سلبيات سابقه الذي حرق نفسه بيديه، ولم يتأسف أحد على رحيله قبل عامين. لم يعقد المجلس إلا عشر جلسات رقابية، مع أن بيده قرار التصويت لحجب الثقة عن أي حكومة أو رفض مشروع أي قانون.
لا أثر للأحزاب في الشارع باستثناء التيار الإسلامي. التحالف المدني ما زال مولوداً جديداً. الإعلام التقليدي يقف عاجزاً عن مواجهة سيل الفبركات، وخطاب الكراهية المتدفق عبر مواقع إخبارية حقيقية، وحسابات وهمية على منصات التواصل الإجتماعي. وتتحدث جيوش من المغردين المؤثرين بالإنابة عن وزراء ورجال أعمال بارزين ومؤسسات رسمية. ولن تتحقق الوعود بأن تشكل الحكومات القادمة من رحم البرلمان قبل ثلاث جولات من الآن. ومركز القرار يمسك بخيوط اللعبة في كل الاتجاهات: الحكومة والبرلمان والاعلام.
أمام هذا الاستعصاء، ينبغي التحقق من الأسباب الحقيقية التي تحول دون السماح للأردن الرسمي بالتخفف من صندوق النقد. لكن من هي الجهة التي ستدافع عن المواطن، بعد تراجع دور البرلمان وغياب معارضة تحمل برنامجاً بديلاً وفكراً واضحاً، بما يشكّل تياراً داخل المجلس النيابي، قادراً على استدعاء جميع رؤساء الوزارات، منذ عام 1990 لكي يفهم الأردنيون لماذا مدّت حكومة الملقي يدها وبهذه الطريقة الفجة إلى جيوب الغالبية الساحقة.
صحيح أن الملك الذي أحتفل بعيد ميلاده السادس والخمسين، قال لمجموعة طلبة بأن العام الحالي سيشهد تركيزاً مكثفاً على الإصلاح الإداري ومحاربة الفساد، لكن على أرض الواقع، لا يعوّل الكثير على قيام السلطات المختصة باسترجاع أموال نهبها متنفذون ورجال أعمال وشركاء خلال العقود الماضية وفق مبدأ: "حكّلي لحكّلك".
*كاتبة صحفية/موقع درج