جريمة "الحديث بعكس السير".

جريمة "الحديث بعكس السير".
الرابط المختصر

 

يوماً بعد يوم يظهر أن مقولة الدكتاتوريات الغابرة في مصر وتونس واليمن وسوريا وغيرها بأن "الشعوب غير جاهزة بعد للديمقراطية"؛ تجد ما يصدق لما بين يديها من خلال ممارسات وردود أفعال البعض على تعبير البعض الآخر عن آرائهم بحرية. لقد أفرزت النقاشات والخطوات الأخيرة الداعية لرفع الحصانة عن النائب طارق خوري تمهيداً لمحاكمته على ممارسته لحقه في التعبير على صفحته الشخصية على فيسبوك؛ مشهداً ضبابياً ينبئ عن صعوبة تغيير الموروث الفكري والعملاني المتعلق بحرية التعبير عن الرأي لدى جمع لا يستهان به من الناس في هذا البلد الطيب أهله. والواقع أنني واحد من الناس الذين لا يتفقون دائماً مع مضمين وطروحات سعادة النائب طارق خوري –وهو أمر من صميم الاختلاف والتعددية- إلا أنني أجد نفسي مذهولاً من استساغة البعض لتجيّش الشارع والرأي العام ضد الرجل لكونه قال ما لا يعجب مجموعةً من الناس. إن المتأمل في ما كتبه النائب المحترم لا يجد فيه خرقاً لقانون ولا تغريداً خارج السرب بل هو حديث يدور في الشارع وهو من بعد انعكاساً طبيعياً لمضي الدولة في اتجاه الإصلاح ومكافحة الفساد وترسيخ الديمقراطية كما دعى ويدعو إليها جلالة الملك سواءً في الأوراق النقاشية أو في خطاباته في أكثر من مناسبة. وفي هذا الاتجاه، فإن ثمة ما ينبغي الالتفات له بعناية وحذر ألا وهو اتخاذ المناوئين لحرية التعبير من اسم جلالة الملك حفظه الله ذريعةً لمحاربة القيم والممارسات الديمقراطية التي يسعى جلالته من أجل ترسيخها! والحقيقة أن هذا الأسلوب ليس بِدعاً في زماننا فهو متبع منذ قرون حيث أن استقراء تاريخ الدولة العباسية ومن قبلها الأموية يشير إلى كيفية تبارز الشعراء والأدباء والساسة في ما بينهم ومحاربتهم لبعضهم البعض باسم الخليفة ومن أجل تحقيق إرادته السياسية، وهنا مكمن الداء، فالكل يتشدق باسم الحاكم وإرادته ويعطي نفسه الحق لتفسير تلك الإرادة كيفما شاء لقهر خصمه السياسي دون أن يكلف نفسه عناء التحقق من دقة فهمه لمغزى تلك الإرادة ومنتهاها. ولعل في قصة الشاعر العظيم أبو تمام عبرةً ومثلاً حيث أنشد يمتدح الخليفة المعتصم فقال: "إقدام عمرو في سماحة حاتمٍ... في حلم أحنفَ في ذكاء إياسِ"، فهب جانب آخر من الحاضرين منكرين عليه ذلك قائلين: "كيف تشبه الخليفة بهؤلاء وهو أفضل منهم؟"، فرد الشاعر بعبقرية غير مسبوقة ببيت من ذات القافية وعلى البحر نفسه فقال: "لا تلومو ضربي له من دونه مثلا، شروداً في الندا والباسي، فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلا، من المشكاة والنبراسي". فمن أين نأتي بأبي تمام يناصر حرية التعبير والرأي في مواجهة موجة قديمة متجددة ممن يؤثرون الحرية ولكن بسقف لا يتجاوز سقف الحلق وليس كما أرادها جلالة الملك "سقفها السماء؟". الرأي يجابه بالرأي والفكر يواجه بالفكر والقول بغير ذلك يجعلنا في معركة غير عادلة قبل أن تكون غير متكافئة بين حرية التعبير التي أداتها الفكر والقلم وبين الإرهاب الفكري وتكميم الأفواه الذي أداته التشهير والتجريد من الحقوق والحريات باسم "المصلحة الوطنةي"، ولله در المصلحة الوطنية كم تُتخذ مطيةً يركبها كل جبار عنيد وما قومنا في الجوار منا ببعيد.

 

إن البعض يفهمون حرية الرأي والتعبير بأنها قول ما يجب أن يقال وليس اختلاف الفكر والمقال، والغريب في الأمر أن تأتي المطالبات بمحاكمة النائب المحترم من جانب من الناس يفترض فيهم أن يكونوا خط الدفاع الأول عن الحق في حرية الرأي والتعبير، ولهؤلاء نقول، استذكروا قصة "أكلتيوم أكل الثور الأبيض" ولسان حالكم يقول "يجب إضافة جريمة جديدة لقانون العقوبات عنوانها: التحدث بعكس السير"، وبطبيعة الحال أنتم من يقود الركب ومن ينظم السير زعماً من عند أنفسكم. إن هذا البلد لم ولن يكن حكراً على أحد دون أحد فهو للجميع باختلاف أفكارهم وتوجهاتهم واتجاهاتهم وهذا سر صموده وثباته في أرض تعصف بها رياح التطرف والإرهاب الديني والسياسي والفكري، وهنا ينبغي الالتفات إلى أن  الإرهاب الفكري باسم "المصلحة الوطنية" و "سمعة الأوطان" و "الإخلاص للدولة"... لا يقل خطورةً بل قد يزيد عن الإرهاب الديني، حيث أن الأخير ليس له في القانون غطاء بينما يُلبّس الآخر ثوب المشروعية من ليّ النصوص القانونية وإنزالها غير منازلها.

 

إن آفة الديمقراطية وفوضى التنكيل تكمن في عدم الركون والتوافق على مرجعية موضوعية لفحوى حرية الرأي والتعبير، فهذه الحرية نظمتها نصوص واتفاقيات دولية صادقت عليها المملكة بل وأقرتها مبادئاً دستوريةً وأحكاماً قانونيةً لا ينازع فيها ذو لبٍ رشيد، فإذا ما أراد البعض القفز فوق هذه المرجعية وحكّم عوضاً عنها الهوا والميل الفردي واالنطباعات الشخصية لإغراض وغايات شعبوية، فإننا نغدو أمام واقع تختلط فيه المبادئ والمعايير الموضوعية بالهوا وردود الأفعال العشوائية، وهذا يقود المجتمع بأسره نحو هاوية التطرف والاستبداد الذاتي وهو أخطر بكثير من التطرف المنظم أو المقنن الذي تمارسه بعض الأنظمة في هذا العالم.

أضف تعليقك