“حسناً.. تصبحون على خير”!
آخر مرَّةٍ ركبتُ الطائرة، كان حدثاً عادياً قبل شهرين، يتكرَّرُ عادةً كلَّ شهر تقريباً. أظهرتُ ثقة شديدة أثناء صعودِ الدرج، كمنْ يصعد إلى بيت الزوجة الثانية، اتجهتُ إلى مقعدي وفق الأحرف اللاتينية، بدون الاستعانة بالمضيفة الشامية اللكنة. جلستُ متعالياً، وزفرتُ تأففاً خفيفاً من الاضطرار لربط حزام الأمان غير الضروريِّ، وأبديتُ تعالياً آخر، فلم أصغِ لإرشادات السلامة المكرَّرة، ولم يدفعني الفضولُ الأشد من القتل إلى النظر أسفل المقعد للاطمئان على وجود سترة النجاة، ولم أستدعِ، كجاري الغشيم، المضيفة، لأسألها عن آلية فتح الشُبَّاكِ؛ لم أستدعها إلا لأقول لها بمزاج عالٍ: “أرجوكِ تدرَّبي أكثر على اللكنة الشامية”!
طارت الطائرةُ في موعدها القدريِّ. جارةٌ وقورَةٌ قرأتْ دعاء السفر، وكانت متأثرة، وتبدو قريبة من البكاء، كما لو أنها تشاهد رؤيا مشؤومة أمامها بدون أنْ تستطيع منع تحققها. ارتبكتُ لما نزل خيط رقيق من دمعها، وتراجعتُ عن حركة سخيفة، بأنْ أختارَ ضمن قائمة التلفاز أمامي فيلماً غبياً لـ”هاني رمزي” لحرق ساعتين من الضجر. وضعتُ المؤشِّر على “القرآن الكريم”، كما فعلت الجارة الوقورة، وكنتُ قريباً من البكاء، ويبدو أن خيطاً رفيعاً من الدمع قد نزل من عيني الضعيفة، لمَّا اعترَض الطائرة مطبٌّ هوائيٌّ لحوحٌ، فاستدعيتُ المضيفة لتشرح، ولو بشاميَّة مكسَّرة، طريقة العثور على سترة النجاة!
كلّ شهرين أركب الطائرة، ولا مرَّة فكَّرتُ في صالة الانتظار الباردة، أنَّها قد تسقط لـ”عطلٍ فني” مفاجئ في الماء الشديد الزرقة، أو وسط ربعٍ خالٍ في الصحراء، وبالطبع لم يسعفني خيالي السينمائي المحدود لأن أتخيلني “توم هانكس”، مع فارق نقاء اللون، “منبوذاً”، في جزيرة نائية، ربَّما بالكاد استطعتُ بذاكرة سينمائية عربية مثقوبة، أن أتخيلني أحد ركاب “الطائرة المفقودة”، في واد لا يبعد كثيراً عن الحياة، برفقة “محمود ياسين” و”سهير رمزي”، في حبكة رديئة تنتهي بـ”السعادة”. لم أشك مرة أنني لن أعودَ من السماء، كنتُ دائماً على ثقة شديدة العماء بأن قبطان الطائرة “رجلٌ مرٌّ”، أو ربَّما كنتُ على قناعة أن وفاتي أمرٌ بسيط يمكن أن يتكفل فيه حادث تصادم على “الطريق الزراعي”!
وربَّما ما زلتُ أظنُّ أن الموتَ قربَ السماء ترفٌ ليس على كائنٍ أرضيٍّ مثلي أن يحظى به. أفضّلُ أنْ أموت بغذاء فاسدٍ، على أقلِّ من المهل، وعلى أن لا تقلَّ مدة الاحتضار عن عشرين عاماً، ثلثها بوضعية تمدد مهينٍ في طابور انتظار أمام عيادة الباطنية في مستشفى “البشير”، أو بطلقٍ طائش عائدٍ على غير هدى من السماء إلى الأرض بزفاف “غفْلٍ”، أو نجاح “نجاح” في الثانوية تجاري، ماذا لو متُّ كما تموتُ أغنية طويلة، تنسحبُ بكبرياء من الإذاعة لتتركَ مساحتها من الأثير لعشرين أغنية ناقصة. خلعتُ حزامَ الأمان مطمئناً لما انطفأ الضوء الآمر؛ ثمَّ اتخذتُ قراراً غبياً بمشاهدة فيلم “هاني رمزي”!
سأسافرُ بعد شهر، وكلَّ شهرين، ولن يكونَ الأمر بعد ذلك حدثاً عادياً، وقد لا يكون قابلاً للتكرار، فمنذُ الرحلة 370 للطائرة الماليزية، المتجهة إلى بكين، أصبحتُ على يقينٍ أنني قد أموتُ، أو أختفي وراء أيَّ عبارةٍ حسنَةٍ يقولها الكابتن غير الموثوق، خصوصاً إذا قال “عندما يأتي المساء” بثلاث لغات متداولة “حسناً.. تصبحون على خير”، ثمَّ آخذ دوري بالسقوط المدوّي في محيط هادٍ أو عصبيِّ، بسترة صفراء لا تستر عورتي، وكمامة أوكسجين قليل قد يؤخِّر طقوسَ الاحتضار، ولن أترك ورائي أثراً يدلُّ على رغبة أخرى لي بالموت الفرديِّ، فكلُّ ما في الصندوق الأسود لن يزيدَ على ثرثرة متداخلة لمضيفة تتدرَّب على اللكنة الشامية!
الغد