ينفون غالب بالكفّ عن قراءته

ينفون غالب بالكفّ عن قراءته
الرابط المختصر

 

 

 

سُئلت أكثر من مرّة عن غالب هلسا، إنساناً وكتابات وموقفاً من الحياة. وفي كلّ مرّة كنتُ أجدني حيال التفكّر بالرجل من زاوية جديدة، لم أطرق بابها في إجابات سابقة. غالب هلسا حالة تجدد نفسها، داخلي، كلّما أعدت قراءة أحد كتبه، أكان رواية أو قصة أو نقداً أو طرحاً لموقف له علاقة بحالات سياسية ساخنة. حالة تجدد نفسها وفي الوقت نفسه تؤكد تميّز صاحبها.

 

أكتب الآن على وقع الاستعادة والتذكّر. استعادة نقاط الضوء الخاصة به، وتذكّر الآثار التي تركها فيَّ.

*   *   *

ليس بمقدوري فصل شغفي بكتابات غالب هلسا، على صعيد مفارقتها البائنة للسائد السردي العربي، عن شخصيته ككاتبٍ لحمَ الحياةَ التي عاشها بالكتابة التي أنجزها، والعكس صحيح على نحو تبادليّ. فأنا عند قراءتي لأعماله أكون، في اللحظة عينها، أتملّى في كيفية سطره لمسيرة حياته المواكبة لِما كتب. وهذا الأمر، ولدى مراجعتنا لِسِيَر العدد الأكبر من الكتّاب العرب، ليس مألوفاً، بل هو نادر حقاً.

 

إذا كاشفتُ نفسي الآن؛ فإني أسجِّلُ شهادةً هي التالي:

أثبتَ لي غالب هلسا أنَّ توقي، ومنذ البداية، لأن أكون أنا في الكتابة كما أنا في الحياة لم يكن اختراعاً مسجلاً باسمي فقط. ربما لستُ، تماماً، مثله – إذ لا أحد مثل أحد -، غير أنَّ التشابهات والتقاطعات تقوم مقام التنبيه والتذكير. هكذا يكون تذكّري لغالب هلسا علامة كتابة وحياة لا تتكرر كل يوم.

 

كتابات كثيرة نُشِرت عن شخصيته كمنفيّ اضطراريّ، أو كمُبْعَد.

وإنها لمسألة لستُ شغوفاً بممارسة الغَزْل على منوالها لأنسج، بالتالي، ثوباً لا يليق بـ"حقيقة" أنّ غالب هلسا لم يكن منفيّاً عن الأردن بقدر ما كان، بكامل مدلول الكلمة، مغترباً غريباً إذا ما استمرَ مقيماً فيه. صحيح أنّه خرجَ "مطلوباً" من النظام لأسباب سياسية دافعها معارضته له، لكنّ واقع إقامته في القاهرة تحديداً، وسواها من مدن "اضطُر" للإقامة فيها، جاء منسجماً لتوقه العميق في أن يتحرك في فضاءات أوسع من الفضاء الأردني الضيق والمحافظ: ضيق ومحافظ على الصعيدين، الاجتماعي والثقافي – ناهيك عن الصعيد السياسي وقتذاك -، وربما حتّى وقتنا الراهن.

 

أضيف: لم يلحق "النفي" بمنجز غالب هلسا داخل الأردن، كما أحبَّ البعض أن يشيع.

لقد توفرَت أعماله طوال الفترات التي مرّت عليه بينما هو في الخارج. ولعلّني أقارب الدِقَّة إذا ما قلت بأنّ معظم (إنْ لم يكن جميع) كتبه كان متوفراً. وشخصياً، لقد اشتريتُ من عمّان ما فاتني من تلك الكتب التي لم يتح لي الحصول عليها قبل عودتي إليها في عام 1976.

 

أكانت هذه غفلة الرقيب، أم تواطؤ منه، أم تغافل السلطة؟ لا أعرف.

ما أعرفه أني، لامتحان تلك المسألة، تقدمتُ لدائرة المطبوعات والنشر (في عِزّ سطوتها)، بصفتي ناشراً، بكامل أعماله الروائية لأنال إجازة طباعتها ونشرها، دون حذف كلمة واحدة، وكان لي ما أردت! وطُبعت فعلاً.

 

إنّ النفي الحقيقي لكلٍّ من غالب هلسا ومنجزه إنما يتجلّى في تكرار ما كُتب عنهما دون إضافة نقدية واحدة ذات أهمية. ليس هنالك من قراءات جديدة، برؤى جديدة، مغايرة لِما قرأنا من سنوات عدة. هذا هو النفي المؤلم لكاتبٍ كبير بكامل معنى "كبير". هذا هو النفي الجارح لمنجزٍ – علامة لا أحد بمستطاعه إدارة الظهر له. والخشية كل الخشية أنّ تُمارَس كلمة "النفي" هنا بمعناها الآخر: أن ننفيه بمدلول أن نُبْطِلَ وجوده.. ولا نكتفي بإبعاده!

 

إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.

أضف تعليقك