يعادون الإصلاح فاحذروهم

يعادون الإصلاح فاحذروهم
الرابط المختصر

الذين استمرأوا الخروج على الدستور وحنثوا بيمين احترامه .

كلما استمعت إلى حديثٍ جلالة الملك عن مضمون الإصلاح المطلوب, يسرح ذهني ونظري بعيداً في أفق المستقبل, وأتصور الأردن دولة يسود فيها حكم القانون الذي يترجم نصوص الحريات في دستورنا إلى أبهى وأحسن مضامين, وسلطات تعمل بشكل متكامل, على نحو يجسد حق الطمأنينة للمواطن تماماً كما نص الدستور, وسيادة مبدأ العدل الذي هو أساس الملك, ومساواة وشفافية لا تترك لفاسد أو فساد مكانا, واختفاء صلاحيات حكوماتٍ وأجهزة تَعَوّدت على إعطاء نفسها سلطات سماوية, وبرلمان يجسد الإرادة الحقيقية لشعب صبر طويلاً وكثيراً على ظلمٍ وتسلطٍ من ذوي القربى, وقضاء شامخ تحاكي أحكامه سوامق الأحكام في الديمقراطيات المعاصرة, ومواطن ينام قرير العين لا يفكر إلا بالتفوق في عطائه وإبداعاته بعد أن زال الخوف من حياته, ومجتمع اختفى من تصرفاته وأحاديثه منطق التقية الذي اضطره إلى النفاق والمديح للسلطة علناً ثم شتمها بين أصدقائه وذويه في الغرف المغلقة.

ولكن عندما يرتد نظري إلى واقع الحال, وأرى أو أسمع أو أقرأ, عن الكيفية التي يظهر فيها بعض مقترحات الإصلاح, أشعر بحزن شديد حقاً, وأكاد أفقد الأمل.

إن جلالة الملك الذي يتمنى أن يكون الأردن أفضل دولة, هو إنسان كسائر البشر, يرضى ويغضب, ويفرح ويحزن, ويتحمس ويفْتُر, ويجتهد كغيره من الناس فيصيب ويخطئ. لكنه كرئيس للدولة, يعلم أنه لا يملك وفقاً للدستور سلطاناً مطلقاً على سلطات الدولة وشعبها, ولا يستطيع وحده أن يقوم بالإصلاح أو يحقق التقدم, وأنه لا يملك سوى التوجيه والاعتماد على أبناء وطنه, بل والأكفاء من أبناء هذا الوطن. فإذا ظهر أن التأهيل الأساسي لمن يُرَشحون له لكي يعتمد عليهم, هو القدرة على المديح والنفاق, والتغني بما يصدر عنه, وإشعاره بأنه لا يخطئ ودائماً على صواب في اختياراته, وأن الشعب راضِ ومرتاح والأمور تسير على أفضل وجه, وأن المتظاهرين والمعتصمين هم قلة لا يتجاوزن العشرات وأن الذي يُحركهم أجندات خاصة, فهذا هو التضليل بعينه والإغواء الذي يورد موارد الهلاك, وفي ذلك ظُلم له وللوطن وللشعب معاً.

أقول هذا, وأمامي ما ظهر مؤخراً على الساحة بخصوص الإصلاح في موضوع الانتخاب, ولست أدري لماذا هذا التضييق والحصار على إخراج برلمان يجسّد إرادة شعبية حقيقية تحاسب الحكومات وتضع حداً لتغوّل أجهزتها, في حين أن ما أصبح يتردد أخيراً من أن ذلك توجيهات من فوق هو كذب وافتراء. إنني لا أعتقد أن جلالة الملك في موضوع قانون الانتخاب, كان وراء الاقتراح بأن يختار الناخب اسم المرشح للنيابة من القائمة النسبيّة التي اختارها, لندخل في دوامة جديدة هي القائمة الوهمية بعد الدائرة الوهمية وقانون الصوت الواحد. كما لا أعتقد أن جلالة الملك كان وراء إفراغ قائمة الوطن من مضمونها المرتجى, سواء من حيث العدد أو تقييد الاختيار فيها. إن قانون الانتخاب هو الطريق الأساسي الذي يُمكّن الأحزاب السياسية من النمو والوصول للبرلمان بأغلبيات برلمانية تؤدي إلى تداول السلطة. وتكفينا ثلاثون سنة منعا للأحزاب, وعشرون أخرى والحكومات تضع الكوابح والموانع في وجه نمو تلك الأحزاب. ورغم تقديري للجهود التي بذلتها لجنة الإصلاح, فإني أعتقد أن بعض ما صدر عن اللجنة في هذا الصدد, سوف يعيق نمو الأحزاب إلى سنوات وسنوات, وسوف يفرض علينا البدء من جديد في إصلاح ما سمي بالإصلاح.

أما في موضوع الإصلاح الدستوري, فإن أكثر ما يلفت النظر هو أن هناك بعض الشطار ممن جرّبناهم في تطبيق أحكام الدستور, فبرعوا بإفراغ نصوص هذا الدستور من مضامينها, بموجب تفسيرات وفتاوى تفصل على مقاس الحكومات وأجهزتها, ومرّروا ما فعلوه باسم الولاء, فَمُكّنوا من قَهْر الحريات وتسلط الحكومات, لينفردوا بالساحة ويحصلوا على الفلل المفروشة والعطايا الكثيرة والامتيازات التي قادت إلى الفساد. فقبل إلغاء الأحكام العرفية عام ,1991 كانت السيادة في التطبيق لتعليمات الإدارة العرفية وقرارات الحاكم العرفي المحرمة على الطعن أمام القضاء, وكان هؤلاء الذين جربناهم, هم صناع تلك القرارات ومهندسو صياغتها. ومنذ إلغاء تعليمات الأحكام العرفية عام ,1991 أصبحت نصوص الدستور والقوانين التي تصدر وفقاً لها, هي وحدها المرجعية لتصرف الحكومات وما يصدر عنها من قرارات. وخلال هذه الفترة (أي العشرين سنة) ظهر بشكل واضح كيفية الخروج على الدستور, وكيفية إصدار القوانين التي أفرغت نصوص الدستور من محتواها, وكيفية إصدار القرارات التي أظهرت التسلط والانحراف بأسوأ صوره, والكيفية التي عانت فيها الحقوق والحريات بموجب تلك القوانين والقرارات, وما أدى إليه كل ذلك من نهب منظم للمال العام, مما استدرج في المحصلة مظاهرات واحتجاجات, بعد أن وصلت عواصف التغيير الثورية إلى جميع الساحات, وكسرت حاجز الخوف وفرضت ما تستوجبه الدساتير من المباحات. وكان الشطار ذاتهم ومن تربوا في مدرستهم هم فرسان المخالفات الدستورية, وصنّاع القوانين التي أعطوها مضامين عرفية والقرارات التي استبدت بالحقوق والحريات

إن من درسوا مادة القانون الدستوري في الجامعات, وهم في وطننا يُقَدّرون بعشرات الآلاف, عندما يقرأون في دستورنا النصوص التي تؤكد أن الدولة تكفل حرية الرأي, وتكفل حق الطمأنينة للأردني, ثم يقارنون مضمون هذه النصوص مع الواقع الذي فرضه هؤلاء الشطار على مدى العشرين سنة الماضية, يقفون مشدوهين حائرين حول الكيفية التي ستشارك فيها بالإصلاح أيادٍ سبق وأن قارفت الإثم بحق الأردنيين ودستورهم. فإذا كان هؤلاء الشطار لا يعلمون بإثم ما قارفوه فتلك مصيبة, وإن كانوا يعلمون فالمصيبة أعظم, وفي الحالين, فإنهم يصبحون فاقدين لأي تأهيل للإصلاح, وإن اقترحوا إصلاحاً فسوف ينطقون بخطيئة مضمونها كفرٌ بواحٌ بالنظام البرلماني النيابي الذي يناضل الأردنيون من أجل العودة إليه.

أقول ما سبق, وأمامي نص دستوري تم اقتراحه لإصلاح دستورنا يقول:

"الحكومة التي توصي بحل مجلس النواب, تقدم استقالتها حكماً ..."

إن كلمة "توصي" في النص المقترح تعني أن صاحب القرار هو من يُوصَي إليه وحده, أي الملك, وأن الحكومة ما دامت توصي فقط فهي ليست صاحبة سلطة وقرار, وبالتالي فهي ليست مسؤولة وإنما المسؤول هو من يقرر, أي الملك, في حين أن الملك معفي من المسؤولية. لا أريد أن أتحدث تفصيلاً في النص الذي يستحيل أن تجتمع فيه عبارة "تقدم استقالتها" مع كلمة "حكماً", لأن كلمة تقدم فعل إنساني إرادي, وكلمة حكماً هي أمر حتمي قانوني, لكني أؤكد أن مثل هذا النص المقترح لا يقبله دستور يأخذ بالنظام البرلماني النيابي.

وأتساءل: من هم هؤلاء الشطار الذين أوحوا بصياغة النص, هل هم من تنكروا لمبدأ المشروعية الدستورية منذ أيام المجلس الوطني الاستشاري, وقصدوا إعطاء الملك سلطة جديدة أقطع بأنه لا يريدها, وفقاً لتصريحات جلالته, فضلاً عن أنها غير موجودة في دستورنا أو في دساتير النظام البرلماني وأنها تتعارض مع المادة (40) من الدستور? فهل الإصلاحات الدستورية المرتقبة ستكون على هذه الشاكلة? إن هذا النص الدستوري المقترح, يكفي وحده لقتل الإصلاح في مهده, ويلغي الأساس الذي يقوم عليه النظام البرلماني الذي ينتمي إليه دستورنا عند صدوره عام .1952 إن هذا النفاق والرياء يجعلني أخاف على الإصلاح الدستوري المنشود من العقلية والنهج لمن جربناهم من المصلحين.

إني أخشى ما أخشاه هو سيطرة فئة الشطار, ممن تخصصوا في الخروج على الدستور بالفتاوى والتفسيرات والممارسات, على هذا الإصلاح. فهذه الفئة لها تاريخ مكشوف للجميع بمعاداة الإصلاح إن كان مطلباً شعبياً. أما إن كان المطلب سلطوياً, فإن تكوينهم العرفي وثقافتهم النفاقية, سوف تجعلهم يقدمون إصلاحاً شكلياً خالي المضمون, يتحدى تطلعات الشباب الذين تركوا ساحات التظاهر والاعتصام ثقة بالوعود. ولا غرابة في الأمر إن نفخ هؤلاء من شطار المصلحين تحت الرماد, بعد صب الزيت عليه بما يصدر عنهم, واشتعلت نيران الشباب الذين انفصل عنهم أولئك الشطار القابعون في البروج التي اختطفوها في غيبة الأمناء على الأوطان.

إن من أغرب الغرائب, أن أبناء هذه الفئة الذين أسقط الحنث باليمين عدالتهم واستقامتهم, دائمو الحضور في الميدان: ففي العهد العرفي هم حملة الكرباج, وفي العهد الديمقراطي لهم صدارة المكان. ورغم أنهم عندما يدلهّم الخطب يسرعون إلى الهروب والاختفاء, إلا أنهم يحظون دائماً بالرضا عنهم كأبناء ليلة القدر فلا يُحاسبون, وللإصلاح منتدبون, ثقة بأن ما تلتقطه قرون استشعارهم عن بعد مما يرضي الحكومات, سوف يقترحون, وبحكم خبرتهم يعلمون أن ما يقومون به هو فقط من أجل احتواء الهبات, وأن عليهم أن يقدموا أقل القليل ليظهر للناس في صورة استجابات! ولم لا, فقد أُخفي رجال الدولة رغم أنهم أحياء, وأصبح المخلصون في وطنهم غرباء, وانتشر التذمّر في كل مكان, وغيّب قُرّاء التاريخ والحكماء, وافتُقد النُّصاح والأوفياء. فهل نؤكد ونكرر التأكيد بأن مثل هذه الفئة التي تكسّبت بالنفاق, وضحّت بالدستور, وتنغنغت ترفاً لا تستحقه, جرّفت الوطن من أجيال من الكفاءات حتى لا تكشف عوراتها, وتعادي الإصلاح لأنه يعصف بامتيازاتها, وأنها لا تنتمي إلا لجيوبها, وأنها دائماً جاهزة مع حقائبها للقفز من السفينة عند جنوحها, لا يهمها أن تغرق السفينة مع ربانها, وأنها تستخدم قرون الاستشعار لديها لتنجو بجلدها.

لقد أصبحتُ أخاف على وطني من أولئك الذين استمرأوا مخالفة الدستور والحنث باليمين الذي أقسموا على احترامه, فركبوا الآن موجة الإصلاح وهم بحقيقة ما قارفوه يعرفون, فهل نتعظ من تجارب الآخرين, احذروهم قبل فوات الأوان.

العرب اليوم

أضف تعليقك