يا أهل السماح

يا أهل السماح
الرابط المختصر

كانت الدنيا غير الدنيا حينما نظم الشاعر الغنائي محمد حلاوة كلمات أغنية “سماح” التي لحنّها بعبقرية منقطعة النظير الراحل أحمد صدقي على مقام الصبا ذي الشجون وغنّاها بإحساس رفيع الفنان محمد قنديل، هذا الثلاثي عبّر عن السماح لحناً وكلمات وغناءً كما تفرضه قيمة السماح والتسامح من عفو واحتضان وحنو.

السماح عند أصحاب الإصدار المخفف “light version” من الدين من أهل السماح ”له سياق آخر يختلف تماماً عن سياق صدقي وحلاوة وقنديل، فسماحهم الموروث هو: أن يسمحوا لك بأن تراجع نفسك إذا قررت التفكر في العقيدة التي يتبنونها وحاولت مخالفتهم فيها، فلديك فترة سماح ثلاثة أيام وبعدها يقتلوك، والسماح هو أن يسمحوا لك بالزواج بغير المسلمة ويسمحوا لغير المسلم بأن يسلم قبل أن يتزوج بالمسلمة وإلا فالسيف البتار، والسماح أن يسمحوا للشباب الخَرِف بأن ينتحر مع أن الانتحار "حرام" ويسمحوا له أن يدخل الجنة طالما كان انتحاره “في سبيل الله”.

يقول لنا “أهل السماح المشايخ اللايت”: “أننا أهل التسامح والسماح والسماحة والوجه السَمح والاستسماح...” وما شئت من مصادر وتصريفات هذه الكلمة التي عرفها أسلافنا مبنى وخالفوها معنى وعملاً، فإخراج غير المسلمين من جزيرة العرب مثلاً وعدم السماح لهم دخول مكة والمدينة حتى يومنا هذا، هل هو من باب التسامح؟ بينما يزور شيخ الأزهر والقرضاوي وغيرهما الفاتيكان معقل البابويّة ورمز السلطة والشعائر الدينية عند المسيحيين الكاثوليك؟ إذا سألت ابن القيّم لكشف لك في كتابه “أحكام أهل الذمة” عن الحقيقة المرة التي يتهرب منها تجار العقيدة اللايت ألا وهي: “إنهم نَجَسٌ وبصريح الكتاب لا يجوز أن يقربوا الحرمين”، بينما مشايخنا “أطهارٌ أبرارٌ، يَشرُفُ بهمُ المكانُ ولو كانَ الفاتيكانُ”.

هذه الازدواجية بل حالة الانفصام الأخلاقي التي ورثناها وتشرّبها ضميرنا الجَمعي؛ تنعكس على مسلكيات واتجاهات السواد الأعظم من أطفال وشباب وشابات هذه الأمة الذين احترفوا خلق المبررات وتبرير الخطأ وجعله صواباً إذا ما وقع من جانبنا ومعاقبة الآخر عليه إذا وقع من جانبه، لذلك تجد الأب ينهى صغيره عن الكذب بينما يكذب هو أمام صغيره المأمور، فإذا ما تجرأ الصغير وسأل عن سبب كذب أبيه، فالجواب حاضر: “هذا ليس كذب لكنه مجاملة.. أو كذب أبيض.. وأنا كبير والكبار يعرفون الفرق بين الكذب وغيره.. بينما أنت صغير وحينما تكبر يا حبيبي.. إن شاء الله بتصير كذاب كبير نفتخر بك”.

الأمَرُّ من الحقيقة المُرّة هو إنكارها، فلنعلّم أطفالنا التاريخ كما يروه أهله، أهلُ السماح، الذين في ما يبدو اكتسبوا هذه الصفة من “سماحهم” لأنفسهم بالتسويف و”سماحهم” لأنفسهم بقتل وإذلال غيره وجعله يدفع فديةً عن نفسه وأهله وهو “صاغر” و”سماحهم” للشباب بقتل أنفسهم وأخذ الأبرياء معهم دونما ذنبٍ ولا جريرةٍ على فعلتهم هذه و”سماحهم” لسكان الجزيرة العربية بأن يُقتَلوا ثم يُهجَّروا ثم يُحرَموا من دخول مكة والمدينة حتى يومنا هذا لأنهم “أنجاس” حتى وإن كانت خبراتهم  واختراعاتهم وابتكاراتهم ومصانعهم هي التي تشغل مرافق الحرمين، ثم يسمح سدنة أهل السماح لأنفسهم بأن يحجّوا فرادى ومقرنين وربما متمتعين إلى الفاتيكان دون أن يخجلوا من أنفسهم وهم يقفون بين يدي المتسامح الحقِّ الذي سمحَ لهم بدخولها بينما هم يرونه "نجساً" ويرون في دخوله لمدائن الحرمين موبقةً تكاد تتفطّرُ منها السماء وتخرُّ الجبالُ هَدّا.

“التسامح”، إنها ليست مجرد كلمة أنتم قائلوها بل حضارة وتاريخ وممارسات وسلوك يؤكدها أو يكذبها، والواقع أن الخيار أمامكم ينحصر في أمرين أهونهما مرٌّ، فإما أن تتبرؤوا من كل ما يتناقض وقيم التسامح والتعايش وهو كثير، وإما أن تؤكدوا انتماءكم له وتعترفوا به كما هو وتسمحوا لكل فرد بالاختيار بين قبوله أو رفضه. التسامح والسماح: أن تقبل غيرك وتتقبل منه ما تتوقعه منه، فليكن منا رشيد ينقذ ما تبقى في بعضنا من ضمير وسماح.

 

مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.