وهن العظم مني: رواية محمد العمري

وهن العظم مني: رواية محمد العمري
الرابط المختصر

من بوابة الجامعة الأردنية إلى المجهول، العنوان الفرعي لرواية محمد العمري «وهن العظم مني» يستوعب بدقة وذكاء حالات البحث عن الذات في أثناء الدراسة الجامعية وبعد التخرج لدى الشباب بعامة، مهتماً بمجموعة من شباب الاتجاه الإسلامي، الذين قادوا شبه منفردين الحركة الطلابية على مدى التسعينات قبل أن يختفوا في العقد التالي، أين هم وماذا حل بهم أولئك الشباب الذين ملأوا الفضاء الطلابي في التسعينيات؟ أحدهم هو وضاح خنفر، مدير عام قناة الجزيرة، ولكن أين هم الباقون؟ ماذا حل بهذا الجيل؟ بل ماذا فعل هذا الجيل بالحركة الإسلامية نفسها؟

في روايته المتدفقة يلتقط العمري بكفاءة وبوح عفوي تفاصيل الحوارات والمشاعر والحوارات والتطورات الفكرية والنفسية للحركة الإسلامية نفسها، تحولات الأفكار والمواقف، مراجعة البديهيات والمحرمات، اليأس الشديد من الوعود التي ظهر أنها لم تكن سوى مظهر لغياب الديمقراطية والحريات، الغثيان الذي تبين أنه كان يملأ العقول والقلوب والأرواح، «ويحسبه الظمآن ماء» والأوهام المكدسة التي كانت تبدو في العتمة شيئا كبيرا، فإذا هي في الضوء مجرد عفن وطحالب وروائح تدعو إلى الخجل، الانهيار الشامل الذي حدث في العام 1989 لم يقتصر على الشيوعية، ولكنه شمل أيضا الحركة الإسلامية، وإن كان ذلك على نحو معاكس، ولكن المحصلة واحدة.

عام 1990 يعني لكل مجتمع أو بلد شيئا خاصا به، وإن كان المنشأ واحداً، الغزو العراقي للكويت، في الأردن أطل الناس على نحو واسع وجماعي على أنماط الحياة والاستهلاك في الخليج التي جلبها معهم العائدون من الكويت والخليج، وتكاد هذه الظاهرة تكون هي المساحة الكبرى في ذاكرة شباب التسعينيات في الأردن، يلتقط العمري هذه التحولات بقدرة مدهشة، الصورة العامة عن المغترب العائد إلى الأردن بأنه غني تتحول إلى «ستايل» يتمسك به عدد كبير من المفلسين العائدين تغذيه خبراتهم النظرية والمعرفية بالسيارات والمولات والملابس والأطعمة، لكنها مجرد معرفة، ولكنها في الأردن علم جديد أو اكتشاف مبهر، وهكذا تحولت الجامعة الأردنية رأسا على عقب.

وبرغم أن العمري لم يقل ذلك، فإن القضية إياها (عودة المغتربين في الكويت) قلبت أيضا الحركة الإسلامية رأسا على عقب، فالعائدون من الإخوان الذين لم يجدوا عملا في السوق المزدحم الكاسد من دون عودتهم ولكنه زاد كسادا، اشتغلوا جميعا متفرغين في حماس، والمؤسسات الإخوانية والإسلامية، وهكذا حولت مصادفة الغزو العراقي للكويت «الكوايتة» وهي التسمية الشائعة للعائدين من الكويت إلى قادة في حماس والإخوان، وهم اليوم التيار المؤثر في حماس والإخوان، وربما لو لم يحتل العراق الكويت لكانوا جميعا مندوبي مبيعات ومعلمين وبائعين متجولين في الكويت لا علاقة لهم بما يجري ويملأ الدنيا ويشغلها!! ما علينا، العبارة التي يكررها العمري وهي في مكانها الآن في هذه المقالة، فهذا ما حدث، وضرب الشباب في الأرض، هاجروا إلى الخليج وأوروبا وأميركا وأستراليا، بعضهم نجح وبعضهم فشل وبعضهم سافر إلى أفغانستان، وبعضهم ضاع وتبخر، (وبكى بعضي على بعضي) ولكنهم جميعا صنعوا مشهدا جديدا لم يدرس بعد، ولم يفهم بعد، وكان العمري أحد القلائل النادرين الذي فهموا تلك التحولات الكبرى، والتي برغم ضخامتها لا يكاد يشغل بها أحد.

برغم اتساع وامتداد ظاهرة الحركة الإسلامية فإنها لم تدخل الرواية إلا قليلا، وتفوق التطرف عليها في نصيبه من الدراما، وإن كانت وسائل الإعلام تتحدث عن مسلسل «الجماعة» الذي يعرض تاريخ جماعة الإخوان المسلمين، وهناك من قبل فيلم «طيور الظلام» التحريضي ضد الإخوان المسلمين، وقد صدرت في السبعينيات مجموعة من الروايات عن مرحلة الاعتقالات والتعذيب في الخمسينيات والستينيات في مصر، والواقع أنها ظاهرة تحتاج إلى توقف طويل، هذا الغياب «الإسلاموي» عن الفنون والقصص والروايات والشعر والأدب بعامة، غياب مزدوج، ذاتي يتمثل في ضعف الحضور الأدبي والفني في وسط الحركة الإسلامية، وغياب موضوعي بعامة عن الآداب والفنون، فالذين شغلوا بظاهرة الإسلام السياسي برغم كثرتهم الهائلة جدا اعتصروا التصريحات والأحداث والمواقف، وظلوا يعيدون تكرارها وإنتاجها بلا ملل، وكانت النتيجة أكداسا هائلة ومتشابهة من الغثاء سميت دراسات وتحقيقات صحافية، ولكن أحداً لم يشغل بالظاهرة باعتبارها حالة اجتماعية نفسية ثقافية، أو أنها جزء من حالة المجتمع والأمة والبيئة المحيطة، في البداية كانت تبدو موضوعا دينيا شغل به الدارسون في الحقل الإسلامي في كليات الشريعة، ولكنها انتقلت بسرعة إلى حقول السياسة والإعلام، وتحولت إلى استثمار فج ومخجل، واليوم وعلى نحو ضئيل لعله يكون واعدا ومبشرا تدخل الظاهرة حقول الاجتماع والأدب والفن.

رواية محمد العمري عمل ثقافي وتاريخ اجتماعي جميل ومتدفق، والعمري نفسه كاتب ومدون مبدع، وإن كانت الصحافة لا تعرفه، فتلك مشكلة الصحافة.

العرب القطرية

أضف تعليقك