وهم الحكم باسم الدين

وهم الحكم باسم الدين
الرابط المختصر

في الممارسات الأخيرة لِما يُسمى الدولة الإسلامية انكشاف واضح للمسافة الفاصلة بين المثال المكتوب في بطون الكتب والمناهج والواقع اليومي والحياتي للإنسان؛ إذ إن كل الحركات والأحزاب الدينية تضع نصب أعينها إقامة الدولة الإسلامية، وهدفها النهائي هو إعادة نظام الخلافة، بوصفه النظام المثالي لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.

وكذلك فإن مناهج التربية الإسلامية إلى هذا اليوم لا زالت تطرح فكرة الدولة الإسلامية على أنها النموذج الذي يحقق العدالة لكل الناس ولا يظلم فيها أحد، و"يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه" (رواه البخاري)، و"أن المنادي كان يجوب شوارع المدن في بلاد المسلمين يدعو الفقراء لأخذ الزكاة فلا يجد فقيراً واحداً يعطيه"، وهذه الروايات وغيرها تصور الدولة الإسلامية بأنها أفضل مثال للحكم في الأرض، لأنها من الله، وأنها الجنة الموعودة التي يعيش الناس فيها بأمانٍ وسلام، بلا تعبٍ ولا رهقٍ، فالخليفة يعيش بين الناس وينام تحت الشجرة متوسداً حذاءه، والناس يعيشون بلا رعبٍ منه ومن أمْنه وحرسه، وكل واحد يأخذ حقه بعدالةٍ ومساواةٍ.

فهل كانت بالفعل هذه حال الدولة الإسلامية المزعومة؟

إن هذا السؤال يدعونا للعودة إلى التاريخ، وإلى الدولة الإسلامية التي من المفترض أن تكون الممثل الحقيقي لفكرة الدولة في الإسلام. لقد بدأ الخلاف في الدولة بعد مقتل عثمان بن عفان، وحقيقة الصراع لا تعدو أن تكون تنافساً عشائرياً وتعبيراً عن عصبياتٍ فرعيةٍ استغلت الدين لتحقيق ذلك، ثم بعد ذلك جاءت دولة الأمويين، وقد قامت على عصبية قبلية لبني أمية، وأبعدت من سواهم من القبائل إلا من أعطى الولاء الكامل لهم من دون سؤال، ولا مجال هنا للخوض في المآسي التي حصلت في ذلك الزمن "الجميل"!

ثم جاء بنو العباس ليستغلوا الإسلام ودينه للثأر من بني أمية، فكان صراعاً قبلياً يغلفه الدين ويرعاه الخليفة، ولو تتبعنا الدول التي حكمت باسم الإسلام بعد ذلك لوجدناها تقوم على قبيلةٍ كما في السابق، أو طائفةٍ، كما هي دولة الفاطميين، أو عرْق، كما هي دولة العثمانيين، ولم تخرج الدولة الإسلامية عن الدخول في هذه الصراعات.

ونستطيع القول إن الدولة الإسلامية التي نتحدث عنها كانت تمثل فئةً أو طائفةً من المجتمع، وكان فيها الظلم والفقر والتهميش والقتل والجوع والترف والفساد، كما هي كل الدول في العالم سابقاً وحاضراً ولاحقاً، ولم يتحقق العدل المطلق ولا حتى غير المطلق في التاريخ السياسي لهذه الدولة، بل كان قتْل الخصوم وقهر المختلفين ظاهرة أكبر وأعم.

وكان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور يقول:" أيها الناس لا تنفروا أطيار النعم بترك الشكر، فتحل بكم النقم، ولا تسروا غش الأئمة فإن أحداً لا يسر منكم شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه، وطوالع نظره، وإنا لن نجهل حقوقكم ما عرفتم حقنا، ولا ننسى الإحسان إليكم ما ذكرتم فضلنا، ومن نازعنا هذا القميص أوطأنا أم رأسه، حتى يستقيم رجالكم، وترتدع عمالكم".‏

ويبدو أن الدولة الأسلامية المتخيلة ليست سوى وهْم غرسه تاريخٌ مزعومٌ في عقولنا، وبات الصغير والكبير فينا يحلم بجنته الموعودة تلك، وتظهر الحاجة لهذه الجنة في خضم ما تعانيه البلاد الإسلامية والعربية من جهلٍ وتخلفٍ وتهميشٍ وقهرٍ، فكل المسلمين ينتظرون الخليفة الذي سيأتي شاهراً سيفه وعلى حصانٍ أبلقٍ ليحررهم من الظلم ويعيد لهم هيبتهم المفقودة! إنها أحلام طفولية تدغدغ خيالاتنا هروباً من الواقع المؤلم الذي نعيشه.

لكن الحقيقة المرة التي ستفاجئ الحالمين أن الخليفة سيكون أكثر دكتاتورية من الرؤساء والملوك لأنه يحكم باسم الله ويقطع رؤوس مخالفيه تقرباً لربه ليدخل الجنة، كما أن الدولة الإسلامية ستكون دولة الفئة الغالبة من دون سواها، لأن الدولة الموعودة المتخيلة لا تعدو كونها مزرعة خاصة يحكمها خليفة باسم الله، وكل ما فيها ملكه حتى الناس، فقد كان الخلفاء يتصرفون على أساس أنهم ظلال الله على الأرض، وأنّ سبحانه وضع في أيديهم مفاتيح خزائنه.

وما يحصل اليوم في بلاد المسلمين من الجماعات التي تعلن دولاً إسلامية ما هو إلا تعبير عن هذه الخلافة الموهومة بصورتها المختزنة في اللاوعي الجمعي عند كثير من المسلمين، حيث لا وجود إلا للفئة الناجية التي تسجد لله وللخليفة وللوالي وتدعو لهم بطول البقاء.

 

  • يوسف ربابعة: كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.