ولكن من أين تبدأ الحكومة لأجل الإصلاح؟
نحتاج إلى هذا السؤال على نحو متواصل ومتكرر لنميز بين الإصلاح وضده، أو ما ليس إصلاحا، ولتحدد المجتمعات والأحزاب والشركات ما الذي تريده من الحكومة، وإن كان ما تريده يشكل مطالب صحية وعادلة، ولعله متحقق بالفعل ولا يحتاج إلى مطالبة، ولنواجه أنفسنا بصراحة (حكومة ومجتمعات وشركات) بمسؤولياتنا الحقيقية، فليس كل ما تقدمه الحكومة يعد إصلاحا، وليست كل مطالب المجتمعات والشركات إصلاحية، وربما يكون كثير من أوجه العمل والإنفاق الذي تبذله الحكومة ليس مطلوبا منها ابتداء، ولعله رغم ما فيه من إغراء شعبي أو شركاتي يمثل عملا مضادا للإصلاح، وفي الوقت نفسه تبدو الحكومة منشغلة عن الإصلاح الأساسي بإرضاء المجتمعات والنخب والمستثمرين، وتبدد في ذلك الوقت والموارد.. ولا تصلح.
والواقع أن الإصلاح اليوم تحول إلى شعار/ فكرة للحكومة ومؤيديها والمعارضة التقليدية والحركات الشبابية الجديدة، ويكاد يكون أكثر كلمة متداولة في الإعلام والسياسة، والتظاهرات والمؤتمرات، ولكنها عمليات تكاد تتحول إلى مهرجان مملّ وغوغائي، ودعاوى ومطالب أبعد ما تكون عن الإصلاح... ولا يكاد يعرف أحد ماذا يجب أن تعمل الحكومة أو ماذا تريد بالفعل ولا ماذا تريد المعارضة، أو إن كان ما تدعو إليه الجماهير غائباً او متحققاً بالفعل، لدرجة يبدو الصراع والخلاف وكأنه على الاسم أو ملكية العلامة التجارية/ الفكرية "الإصلاح"، صراع لا يبدو فيه الإصلاح منتصراً في جميع الأحوال، لأنه في حقيقة الأمر غائب/ مغيب تماماً.
الحكومة ليست جهة عطاء، ولا جمعية خيرية توزع المساعدات، ولا شركة تهدف إلى الربح، ولا تفكر بطريقة الشركات، ولكنها تضمن وتنشئ بيئة من المبادئ والسياسات والخدمات الأساسية تقوم حولها الأعمال والمصالح والخدمات، وتدير الموارد العامة بكفاءة ونزاهة على النحو الذي يضمن استمرارها وتجددها ونموها، وتوزعها أيضا بكفاءة وعدالة على النحو الذي يمكنها من القيام بواجباتها الأساسية، ويقدم خدمات تعليمية وصحية واجتماعية للمواطنين، ويساعد المجتمعات والبلديات والشركات على توفير وإدارة الخدمات والسلع والاحتياجات والأولويات.. ومن الفساد الكبير، برغم حسن النية، أن تقوم بعمل غيرها أو يقوم غيرها بعملها.
في النهاية، ستحصل المجتمعات على الديمقراطية، ولكنها للأسف الشديد ستأتي مليئة بالعيوب والمشكلات والنقص، وليست حلاً جاهزاً لمشكلاتنا، ولا تمنحنا تلقائياً الإصلاح والتقدم... ولكنها منظومة لا يوجد أفضل منها للعمل والاختيار والتفكير. يقول جون ماينارد كينز (1904): "ما تزال الديمقراطية قيد التجربة، بيد أنها لم تفضح نفسها، والحقيقة أنها لا تعمل بكامل قوتها حتى الآن، لسببين، أولهما دائم الأثر والمفعول، والثاني ذو طابع مؤقت، فمن ناحية السلطة التي تنطوي عليها الثروة، مهما كانت نسبة التمثيل العددي، ستظل لها الغلبة بصورة لا تناسُبَ فيها، ومن ناحية ثانية، فإن التنظيم المتخلف للطبقات التي منحت حق الاقتراع مؤخراً قد حال دون إحداث أي تعديل كاسح على موازين القوى السابقة".
الغد