"هِجرةٌ طوعية" أم "تَهجيرٌ قسري ناعم"؟

"هِجرةٌ طوعية" أم "تَهجيرٌ قسري ناعم"؟
الرابط المختصر

عند حالات الهجرة القسريّة، أو التهجير المُنظَّم الذي تمارسه أنظمة سياسيّة أو جماعات دينية أو عِرقية على نحوٍ عنيف، وأحياناً بدمويَّة صارخة؛ فإننا لا نتوقف لتأملها والبحث عن أسبابها. نمرُّ على أنبائها (المُنقحة بحسب المحررين في وسائل الإعلام الكبرى فالصغرى فالأصغر بطبعاتها المتنوعة) راسمين علامات التعجب العابر، مطلقين تعابير التألم سريع الذوبان، ثم نمضي في تصريف أمور حياتنا المتصاعدة فيالتَعسُّر، العنيدة في الترسخ. كأنما الصعب الذي يلفُّ معيشتنا اليومية يمنحنا مبرر عدم "الالتفات إلى ألَم الآخرين" – مانحاً نفسي في هذا السياق استعارة عنوان كتاب سوزان سونتاغ.

 

أن نلتفت إلى آلام الآخرين يعني أننا لم نخلع عنّا، بعد، كامل آدميتنا. يعني أننا ما زلنا نعيش "العولمة" - بمفهوم التشارك الإنساني (ولو من بُعْد) والانفتاح على أزمات سوانا من شعوب الأرض ومحاولة فهمها وتفهمها. فإذا تحقق هذا فعلاً فإنه علامة توازن شخصي، وربما اجتماعي عام. ولكن: ماذا بخصوص "الهجرة الطوعية" مكتومة الصوت التي جرت وتجري في الداخل منذ أكثر ما يزيد عن عقد من السنوات؟ الهجرة المُفكَّر بها من قِبل أصحابها، والمخطط لها، وتلك المتحققة عملياً؟ ثمّة تَسَرُّب سُكّاني صامت، نزيف طاقات لا يتوقف، إخلاء لمجاميع من قِوى إنتاجية تتضمن فئات نادرة في تخصصاتها. باختصار: هنالك هَدْرٌ خطير يضرب مجتمعنا في صُلب العناصر القادرة على الارتقاء بعديد من مجالاته الحيوية.

 

إنها ظاهرة عربية قديمة، بل عالم ثالثية سُميت حينذاك "هجرة العقول"، وكانت "فُرص العمل الأفضل" و"المجال الحُرّ المفتوح والداعم للإبداع والابتكار" من أهمّ أسبابها. حدث هذا قبل أربعين سنة وربما خمسين. غير أنّ أسباب الهجرة الطوعية الآن تختلف كثيراً، والأصحّ أنها باتت تطرح أسئلةً من نوعٍ جديد.

 

فإذا كانت "هجرة العقول" تطلعت إلى تحسين حياة المهاجر الفرد وتمكينه من التحصيل العلمي والارتقاء بعيشه؛ فإنَّ "الهجرة الطوعية" اليوم تستمد مبرراتها من الخوف على الذات والأسرة بكاملها. الخوف من "مستقبل" المكان/ البَلَد/ الوطن، وعليه بالتالي. وبذلك، يتجلّى الجواب عن سبب الهجرة الحاليّة على هذا النحو: الخروج من مكانٍ فشلت معطياته الأساسية في منحنا الأمان الحياتي لمستقبل أبنائنا!

نعم، هكذا هو حال مَن هاجر، ومَن ينخرط في إجراءات الهجرة، ومَن يفكِّر بالهجرة، ومَن تخطر له بين أزمة وأخرى وأخرى إلى ما لا نهاية واضحة لتوقف تلاحق الأزمات.

 

لا أريد الكتابة عن أيّ مِن الجهات التي تدير مفاصل البلد التي تتحمل مسؤولية هذه "الكارثة المسكوت عنها" - تقصداً واعياً منها، أو فشلاً ذريعاً في كيفية تصريف الأمور ومعالجة أسباب الأزمة وإدارتها قبل وقوعها. ليس لأنني لا أريد التحديد والتخصيص، بل لأنني أشير بكامل أصابع الاتهام لجميع الذين تسلموا إدارة شؤوننا العامة. هُم مَن يتحمّل هذه المسؤولية. الذين كانوا، والذين أصبحوا راهناً، وكذلك الذين سيصبحون غداً. فثمّة آليّة تدبير، ناتجة عن عقلية في كيفية تفكير أدّت، وتؤدي، ولسوف تستمر في أداء هذا الخراب الجميل. فما دمنا نقيم حياتنا بعقلية التدبير "يوم بيوم" وبالتقسيط؛ فإنَّ اليوم التالي لا ضمانة له.

سأورد في هذا السياق اقتباساً للكاتب التشيكي ميلان كونديرا "المهاجر طوعاً"، لأسباب مغايرة ولظروف مرحلة سياسية مختلفة، يضع يده على مسألة في غاية الخطورة، والواقعية أيضاً، تتعلق بسؤال مستقبل البلدان "الصغيرة". يقول كونديرا في إجابة له عن سؤال للكاتب الإنجليزي إيان ماك إيوان:

"لن تسألوا أنفسكم أبداً ماذا سيحدث حين لن تعود إنجلترا موجودة. غير أنه سؤال تم طرحه مراراً في البلدان الصغيرة: ماذا سيحدث لو أن بولندا لن يعود لها وجود؟ ثمة ثلاثون مليون نسمة يعيشون في بولندا، ولذا فهو ليس بهذا البلد الصغير. غير أن الشعور حقيقي. أتذكّر العبارة الافتتاحية في رسالة بين (اسم لكاتبين بولنديين)، كتب أولهما "بعد مئات السنين في حالة أن بلدنا ظل موجوداً.." ليس هناك أي شخص إنجليزي، أو أميركي، أو ألماني، أو فرنسي يمكن له أن يكتب عبارة كهذه. هذا الشعور بهشاشة الوجود، هذا الإحساس بالفناء تم ربطه بالنظرة إلى التاريخ. فالأمم الكبيرة تعتقد بأنها تصنع التاريخ. وإذا كنتَ تصنع التاريخ فأنتَ تأخذ نفسك مأخذاً جدياً؛ حتى أنك ستؤله نفسك."

 

ونحن؛ على أيّ محمل نأخذ أنفسنا في مواجهة أزماتنا صنيعة فشلنا، قبل أن نتظاهر بأهليتنا في مواجهة العالم؟

لا جدوى من إنكار هاتين الحالتين: الهجرة الطوعية بدافع حماية أبنائنا من مستقبل غامض ملفوف بالمخاطر، وضرورة محاسبة كل "المسؤولين الكِبار رفيعي المستوى" الذين أوصلوا "مواطنينا = مهاجرينا" لأن يتدافعوا للخروج من بوابات "الوطن" لفشلهم في منحنا إجابات عملية وعلمية تطمئننا على مستقبلٍ آمن.. (راجياً عدم الهروب بالتذرع المقارِن لحالنا بحال البلدان المحيطة)؛ إذ أنّ هشاشة واقعنا أكثر من بائنة.

فلنتذكّر حالتين يمارسهما آلافُ "القادرين" – المتأهبين للهجرة/ الخروج بحقائب جاهزة، نتيجةً لعدم اطمئنانهم لحال مستقبلهم ومستقبل أبنائهم.

 

الأولى: الحرص على حيازة جنسيّة أوروبية أو أميركية كاحتياط مبكِّر!

الثانية: الحرص على ولادة الأطفال داخل تلك البلدان بغية "تأمينهم" بجنسيّة تقيهم غائلة الزمن!

أليست هاتان الحالتان إحدى وجوه "الهجرة الطوعية" بدافع الخوف من السؤال عن مستقبل البلد؟

بدأتُ بالكتابة عن التهجير القسري، المنظَّم والعنيف، وتساءلت عن مدى التفاتنا لآلام ضحاياه. تلك صورة بائنة معروضة بالصورة لعيون العالم ووعيه. فماذا عن هجرتنا المخاتلة المموهة؛ هل نعي أبعادها فنلتفت لخسائر ضحاياها/ ضحايانا/ ضحايا وطن موضع سؤال؟

هل نصل إلى حقيقة أنّ "هجرتنا الطوعية" ليست سوى "تهجيراً قَسريّاً ناعماً"، إنما بعقولٍ احترفَت الفشل وأتقنته؟

 

·        إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.

أضف تعليقك