هيام بعض العرب بفلاديمير بوتين في غير محله

منذ بدأ فلاديمير بوتين حربه الدموية والهمجية غير المبررة أبدا على جارته المسالمة، الدولة المستقلة ذات العضوية في الأمم المتحدة، أوكرانيا وأنا ألاحظ دفاع الكثير من العرب عن بوتين وحربه العاتية التي أتت على الأخضر واليابس في هذه الدولة الأوروبية المسالمة التي احتضنت وعلمت عشرات آلاف الطلبة العرب في معاهدها وجامعاتها. كيف يمكن للعرب، تحديدا، تأييد هذا الديكتاتور القمعي والدموي في حربه العبثية هذه على أوكرانيا وهم يعانون في الوقت نفسه من حروب متواصلة وعدوان شرس، قمعي، دموي وإحلالي لا يقل بشاعة وعنفا عن عدوان بوتين على أشقائهم الفلسطينيين منذ 74 عاما؟  قد أتفهم وفوف بعض الأنظمة العربية إلى جانب بوتين، أما الشعوب العربية، فأمر ليس محيرا فقط، بل ومحبط وغير مفهوم. 

بعض الأنظمة العربية، كالنظام السوري وشبه نظام خليفة حفتر في ليبيا يقفان إلى جانب بوتين لأنه أصبح الداعم الرئيسي لهما في مواجهة خصومهما في بلديهما وأصبح وجود نظاميهما مرتبطا بتواصل الدعم الروسي المدمر لهما. بعض الدول العربية الأخرى تريد أن تناكف الولايات المتحدة سياسيا، خصوصا في عهد إدارة بايدن، لأسباب تتعلق بمواقف إدارة بايدن من أنظمة بعض هذه الدول ومساءلتها عن ملفات في هذه الدول لا يريح أنظمتها. أنا على يقين أنه لو كان دونالد ترامب أو أي رئيس أميركي آخر ممن هم على شاكلته في سدة حكم الولايات المتحدة لكانت مواقف هذه الدول مختلفة تماما ولاصطفت هذه الأنظمة جميعا وصورة مطيعة تماما خلف الولايات المتحدة التي تتصدر التصدي لعدوان روسيا على الشعب الأوكراني.

ما هي الأسباب التي يسوقها الداعمون لبوتين في هذه المنطقة في حربه الهمجية على الشعب الأوكراني الأعزل التي دخلت شهرها السابع؟

أولا، السبب الذي تسوقه غالبية العرب لتأييد بوتين هو أن أوكرنيا تتخذ مواقف معادية للقضية الفلسطينية ومؤيدة لإسرائيل حتى في حروبها الهمجية على الفلسطينيين. دعوني أذكر هنا أن "البروباغاندا" الروسية تلعب دورا محوريا هنا عن طريق ترجمة ونشر عشرات الفيديوهات بالعربية على وسائل التواصل الاجتماعي التي إما تركز على حقيقة أن الرئيس الأوكراني فلودومور زيلنسكي يهودي، أو أن بعضها يشير إلى أنه إسرائيلي، فيما بعضها الآخر ينشر تصريحات وبيانات لزيلينسكي وهو يؤيد قصف القوات الإسرائيلية لغزة.  أصدقائي، أرجو الحذر من أن الكثير من هذه المحتويات مدبلجة وغير حقيقية، وهي نتاج آلة إعلامية دعائية تابعة للروس في العالم. والأهم من هذا كله فإذا كان زيلينسكي قد أيد هجمات إسرائيل على غزة أو غيرها من الأراضي الفلسطينية فأنا ضده مئة بالمئة. ثانيا، حقيقة أن زيلينسكي يهودي لا تبرر أبدا أن يؤيد العرب والفلسطينيون تحديدا ديكتاتورا قمعيا، همجيا، شخصانيا مثل بوتين. صدقوني أن السناتور الأميركي بيرني ساندرز، وهو يهودي، الذي كاد أن يكون مرشح الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة في الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2020 هو أشرف ومواقفه أكثر تقدمية في موضوع الصراع العربي الإسرائيلي من الكثير من القادة العرب، بل وحتى القادة الفلسطينيين الذين هم يفترض أن يكونوا أصحاب القضية.

ثانيا، ازدواجية معايير الغرب في التعامل مع الحرب الأوكرانية مقابل تعامله مع القضية الفلسطينية. هذا واضح وأنا أتفهم ذلك. ولكن، هذا ليس ذنب الأوكران الذين قتل منهم بوتين عشرات الآلاف من الأطفال والشيوخ والنساء واغتصب الألاف من النساء وهجر 8 ملايين منهم خلال أسابيع في طول القارة الأوروبية وعرضها. هذه مشكلة الأوروبيين والغرب عموما. غير أن علينا أن ننتبه إلى أن هذه مشكلة في قلب أوروبا وليست في آسيا أو الشرق الأوسط كالقضية الفلسطينية. المجتمع الدولي يرد على القضايا العالمية من منطلق مصالح أمنه القومي، وليس من منطلق أخلاقي فقط!! هذه حقيقة، والمشكلة الأوكرانية هي مشكلة في قلب أوروبا التي لم تمر بمثل هذا الوضع المدمر والخطير والمزعزع للاستقرار منذ الحرب العالمية الثانية. بوتين هدد بفعلته الشريرة هذه أمن أوروبا، كما وهدد أمن الطاقة والغذاء في العالم كله، والأهم من ذلك كله هو أنه وضع العالم بهذه الفعلة الخرقاء أمام حرب نووية. ولكن علينا مع ذلك أن نتذكر أن الغرب تعامل بإنسانية استثنائية مع أزمة اللاجئين السوريين خلال السنوات العشر الماضي وأدخل إلى أراضيه مئات الآلاف من السوريين المهجرين بسبب بطش نظام الأسد، المدعوم روسيا وإيرانيا. أما غالبية الدول العربية فامتنعت عن إدخال سوري واحد إلى أراضيها خشية أن يتلوث نقاء الدم العربي في هذه الدولة أو تلك بدخول السورييين إليها!

ثالثا، الكراهية المعششة في الذهن العربي للولايات المتحدة، وذلك أساسا بسبب وقوف الولايات المتحدة تاريخيا بالباع والذراع مع إسرائيل ضد الفلسطينيين وكل من وقف معهم من العرب خلال السنين الغابرة. وبالتالي، وعلى أساس مقولة أن "صديق عدوي عدوي" فإن العرب يعتقدون أن عليهم الاصطفاف إلى الخندق المناوىء للولايات المتحدة في أي صراع! شخصيا أعتقد أن الولايات المتحدة فقدت بوصلتها الأخلاقية في موقفها من الصراع العربي الإسرائيلي، ولكن ذلك ليس مبررا منطقيا لمناوءة دولة أو شعب فقط لأن الولايات المتحدة تؤيده. الولايات المتحدة وقفت مع الكويت، مثلا، حين غزاها صدام حسين في العام 1990، ليس من منطلق أخلاقي وإنما مصلحي. عرب كثيرون وقفوا مع صدام وهو ما كان الخطوة الأولى التي أدت إلى تشرذم العالم العربي وحالة الضعف والخضوع والاستسلام والتطبيع التي نراها اليوم. الكويت التي وقف بعض العرب مع صدام في مواجهتها لاحتلاله هي أكثر وطنية في هذه المنطقة اليوم من كثيرين في هذه المنطقة.

رابعا، البعض في هذه المنطقة يعتقدون خطأ أن بوتين إذا ما انتصر على أوكرانيا فإنه سينتصر على الولايات المتحدة والناتو والاتحاد الأوروبي. ويعتقد هؤلاء أنه إذا ما انتصر بوتين في هذه الحرب، فإنه سيعيد للمشهد الدولي توازنه الذي انهار بانهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991، وهو بالتالي ما سيضع بعض القيود على هيمنة القطب الواحد، أي الولايات المتحدة، على المشهد الدولي. أصدقائي، الاتحاد السوفياتي انهار وإلى غير رجعة، إنهار لأنه كان يحاول أن يقود بناء قوة على مفهوم تبين أنه خاطيء رفضته شعوب دول الاتحاد السوفياتي ودليل ذلك أن غالبية دول الاتحاد السوفياتي، ومنها أوكرانيا انسلخت عن الاتحاد السوفياتي فور انهياره وانضمت إلى الاتحاد الأوروبي أو الناتو، أو كليهما.

أصدقائي، صدقوني أنه لو انتصر بوتين، وهو لن ينتصر أبدا في هذه المواجهة أو غيرها، فإنه سيعيد العالم إلى مجتمع الغاب الوحشي الذي يأكل فيه القوي الضعيف. هذا هو ما يفعله بوتين في أوكرانيا بالضبط، وهو يهدد العالم بالرد النووي إذا ما تدخلوا ضده. هذا الرجل ليا يسعى لإعادة بناء الاتحاد السوفياتي بفكره الاشتراكي ووقوفه مع الثوار والمظلومين ضد الطغاة والمستبدين. هذا الرجل هو بلا عقيدة من هذا القبيل؛ فهو رجل ديكتاتوري، قمعي، دموي، شخصاني، قاتل ومعذب لمعارضيه ووحشي ضد كل من يقف ضده من الأفراد أو الشعوب أو الدول. هل فعل شيئا للقضية الفلسطينية منذ العام 1991؟ هل أتى سوى بالدمار والقتل للدولتين العربيتين اللتين تدخل فيهما خلال الـ 10 سنوات الماضية، أي ليبيا وسوريا؟؟ أصدقائي، هذا الرجل يسعى ربما إلى إعادة بناء مجد الإمبراطورية الروسية القيصرية. لكن عليه أن يدرك أن الاتحاد السوفياتي انتهى إلى غير رجعة وكذلك الأمر بالنسبة إلى روسيا القيصرية. هذا الرجل، الذي آخر همه هو أن يساعد الفلسطينيين على استعادة ولو جزء بسيط من المحتل من أراضيهم، لو حرر فلسطين من البحر إلى النهر، مع أنه لن يفعل ولا يفكر بذلك أبدا، لما قبلته أن يكون نموذجا لحكم أي جزء من أرض فلسطين أو أرض العرب.

أخيرا، هذا الرجل يجب أن يُرفض ويُدان بأشد العبارات قوة، من الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، وخصوصا من الفلسطينيين وداعميهم في هذه المنطقة. هذا سيكون موقفا أخلاقيا وموقفا قائما على مصالح الأمن القومي لهذه المنطقة وشعوبها.

  • مفيد الديك إعلامي أميركي عربي ودبلوماسي أميركي سابق.



 

أضف تعليقك