هل يأتي غودو؟

هل يأتي غودو؟
الرابط المختصر

يَشهدُ مصطلح “القَدَرِيَّة” في أيامنا هذه استخداماً مغايراً لدلالته الفلسفية المذهبية الأصيلة التي حملت هذا العنوان في العصور الأولى للدولة الإسلامية الأموية. فـ”القَدَرِيَّة” التي بدأها معبد الجهمي وتابعه بعد ذلك غيلان الدمشقي الذي مَثَّلَ فيه بنو أميّة حيث صلبوه ثم قتلوه كما قُتِلَ سلفه الجهني أيضاً على يد الأمويين.

“القَدَرِيَّة” بوصفها مذهباً كان أتباعُه يرون أنّ أفعال العباد وما يجري عليهم من أحداث إنّما هي من صنع أيديهم وليست مُقدّرَةً عليهم، أو كما عبّروا عن ذلك بقولهم: “أنّ الأمر أَنْفٌ أي مستأنف” وأنّه ليس “في علمٍ أزلي”، فالبشر –وفقاً لمذهب القدرية- هم صُنّاعُ أقدارهم بأفعالهم التي ليس للسماء سابقُ علمٍ بها.

كَفّرَ جمهور التابعين وأواخر الصحابة ممن عايشوا ظهور “القَدَرِيَّة” وتبرؤوا من أتباعها ومن فلسفتهم وأقوالهم، معتبرين أنّ نفي القَدَر ونسبة الأفعال والأحداث للبشر؛ هو أمرٌ جَلَلٌ ينطوي على نفيٍ صريح لعلم الله السابق الّلَدُنّي الذي خُلِقَت به الأقدار بما فيها من أحداث وأفعال ونتائج ومصائر في الدنيا والآخرة.

قَدَرِيّو أمتنا اليوم يختلفون تماماً عن المدرسة “القَدَرِيَّة” التي أسّسها معبد الجهني، فالقدريون المعاصرون من بني جلدتنا المُحبَطين ينسبون كلَ شيءٍ للقضاء والقدر، فالبطالة والفشل والمرض والإخفاق والموت بسبب سوء التغذية أو بالقتل أو بالإهمال... وغيرها من الملمّات كُلُّها من حتميات وتقاسيم القَدَر.

الغريب أنّه ما قلّ أن ينسب هؤلاء "النجاح" بكُلّيَتِهِ للقدر، حتى وإن قال أحدهم “الحمد لله”، حيث أن إبراز الجهد الشخصي والكفاح من أجل بلوغ المرام –الذي هو من طبيعة الأمور- يبدو عند أصحابه أقلَّ ارتباطاً بالقضاء والقدر، في المقابل، يظهر في الملمّات القضاء والقدر بوصفه الشخصية الوحيدة في تراجيديا “الحياة البائسة”، هذه التراجيديا التي كرّست أدبياتنا لها من السيناريوهات والحوار ما يحفظه الفشلة المحبطون عن ظهر قلب، ابتداءً من وضع بعض الآيات خارج سياقها خصوصاً آية: “قلّ لن يصيبنَ إلا ما كتب الله لنا”، ناهيك عن الحديث الذي يحفظه كل عاطلٍ عن العمل وعاجزٍ عن مواجهة ضغوطات الحياة ومآسيها: “قل لو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يضروك بشيءٍ لن يضروك بشيء إلا قد كتبه الله لك، وإن اجتمعت الإنس والجنّ على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك بشيءٍ إلا قد كتبه الله لك...”.

هذا التأويل للنصوص الذي قد يكون خارج سياقه حيناً وداخله أحياناً، ومع تفاقم أزماتنا الاقتصادية والاجتماعية، يفضي حتماً إلى حالة جَمعِيَّةً من التواكل والركون إلىالقضاء والقدر لكونهما غطاءً يسترُ عورةَ الفشل والإحباط والعجز عن مغالبة الحياة، وهما من بعد إناءٌ يحفظ قطرات ماء الوجه التي قد يتساقط بعضها بوازعٍ من خيطٍ رفيع من بقايا خُلُقٍ أو شفافيةٍ بين المرء ونفسه.

كيف يمكن لأدبيات تجعل من المرء مجرد مرآة تعكس ما ارتسمَ لها من صورٍ ولوحات حتى قبل الوجود؛ أنّ تحقق للإنسان مقتضيات الإيمان بذاته وقدرته على التغيير والاختيار واتخاذ القرار.

ليس المطلوب أن يتحول الناس إلى المذهب “القَدَرْي” الذي ينفي القضاء والقدر بمعناهما الاصطلاحي الشرعي، لكنّ الحد الأدنى لبناء جيل قويم مؤمن بنفسه وقدراته؛ يتطلب مناهج ومنظومة قيم تُعلي من شأن الإنسان وقدرته على التغيير والتأقلم والإبداع والابتكار.

لو سمع اليابانيون قصيدة الإمام الشافعي التي يقول فيها: “دَعِ الأيامَ تفعل ما تشاءُ، وطِبْ نفساً إذا حَكَمَ القضاءُ، ولا تجزع لحادثةِ الليالي، فما لحوادِثِ الدُنّيا بقاءُ”، لما قامت للقوم نهضةٌ بعد ما ألمّ بهم أثناء وعقب الحرب العالمية الثانية، ولكانوا من أكثر الدول استيراداً للبخور والخرز الأزرق ليدرؤوا عن أنفسهم حسد الحاسدين وكيد الكائدين الذين يتربّصون بهم ليحولوا بينهم وبين التطور والتقدم، وَلَوَجَدتَ  شبابهم يفترشون الأرض أمام السفارات الأجنبية طلباً لتأشيرة تمكّنهم من العمل في جمع قمامة القوم أو تشغيل محطات وقودهم غير النووية طبعاً.

اليابانيون لم يؤمنُوا إلا بأنفسهم وأنّ عليهم تجاوز محنتهم التي أقرّوا بدورهم في حدوثها بعد أن قاموا بمراجعة نقدية لسياساتهم وردات فعلهم، فحققت بلادهم ما لم ولن تحقّقهُ أمّتنا التي “قَدَرُها” الفشل ليس لأنها تفتقر لمقومات النجاح الإنساني والحضاري؛ حاشا وكَلَّا! بل لأنّها أمّةٌ “مُستَهدَفَةٌ”والجميع “يَتربَّصُ بها”! من أجل ماذا ولماذا؟ لا تسأل لأنّك لن تجد جواباً، إلا أن الأمر الغريب يبقى في أنّ أمّةً تُدرِكُ أنّ “قَدَرَها” أن “تتكالب عليها الأمم” وتعيق “مسيرتها” التي لم تبدأ أصلاً، تقفُ موقف المتفرّج من المؤامرة القدرية المزعومة هذه؛ رغم علمها بها حتى قبل تبلورها بل إنّها تعرف تمام المعرفة -من خلال ما لديها من نصوص- المتآمرين والمتربصين وما يستخدمونه من أدوات للتآمر وهدفهم من ذلك، ثم تقف عاجزةً عن الحيلولة دون أن تبدأ تلك المآمرة ثم يستطيل عجزُها قروناً فلا تستطيع وقفها أو تلافي آثارها، ربما لأنّ عجزها هذا بدوره قدرٌ محتوم أو حِجابٌ محكوم ومختوم ألقمهُ الساحر فَمَ حوتٍ في بحر الظلمات!

على من يروم الرفعة والنهضة في نداء الحجر ودعاء الشجر؛ أن يتوسلهما وينتظرهما، تماماً كما ينتظر فلاديمير وأستراغون غودو في خالدة العظيم صامويل بيكيت “في انتظار غودو”، إذ لم ولن يأتِ غودو، ولم ولن يَمَلَّ صاحبيه من انتظاره على الرغم من أنّ اليقين الوحيد الذي يعرفانه هو: أنّه لن يأتِ أبداً.

 

مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.

أضف تعليقك