هل حقا مات "الربيع العربي"؟

هل حقا مات "الربيع العربي"؟

يشير الكثيرون إلى الأوضاع الراهنة المضطربة في الوطن العربي، ويتساءلون مستغربين كيف يمكن لأي شخص أن يتحدث عن التنوع والتسامح عندما تكون دول مثل سورية والعراق آخذة بالتفكك أمام أعيننا، وعندما تكون المظالم السياسية المشتركة في جميع أنحاء المنطقة آخذة في التحول إلى طائفية، مُؤلِبة جارا ضد آخر في معركة من أجل البقاء محصلتها صفر.

تقوم قوى الوضع القائم في العالم العربي بالإشارة إلى السنوات الثلاث الماضية، وتقول: "لقد قلنا لكم ذلك". وتجادل بأن الاضطراب الذي ميَّز معظم عمليات الانتقال منذ العام 2011 إنما هو دليل على أن سياساتها المتمثلة بالاستقرار المفروض بالقوة قد نجحت بشكل أفضل، حتى وإن كان المجال السياسي محدوداً أو مغلقاً. وترفض هذه القوى الإقرار بأن الكثير مما نشهده الآن إنما هو في الواقع نتيجة مباشرة لقيامها بقمع تطور المجتمعات إلى حد احترام التنوع بجميع أشكاله السياسية والثقافية والدينية والجندرية، وبما يمكّن الناس من ممارسة إحساس حقيقي بالمواطَنة. وتتجاهل هذه القوى دروس التاريخ الذي يعلمنا عدم إمكانية إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، وأن كافة التحولات المجتمعية التاريخية أخذت وقتا أكثر بكثير من ثلاث سنوات قبل أن تصل إلى مجتمعات مستقرة ومزدهرة. وقد يكون من المبالغ به إلى حد كبير أن نتوقع من الناس أن يكون لديهم منظور تاريخي لما حدث منذ العام 2011. إن فترة انتباه الكثير من الناس قصيرة، وصبرهم حتى أقصر. قلة من الناس لديها وقت للنقاشات التاريخية أو للتفسيرات التحليلية.

إلا أنني أعتقد اعتقاداً قوياً أن التاريخ هو نبراسنا في ما يحدث في اليقظة العربية في الوقت الحاضر. لا أكتب انطلاقاً من نظرة رومانسية للمنطقة، ولكن انطلاقاً من قناعة راسخة بأن معركة الأفكار قد بدأت أخيراً تتكشف في العالم العربي المعاصر. إنها معركة سوف ينتصر فيها فقط أولئك الذين يكونون على استعداد ليكدحوا ويعرقوا من أجل أن يتم الإقرار بوجهة نظرهم.

سوف يمر العالم العربي بفترة اضطرابات تقوم فيها القوى الإقصائية، مدنية كانت أم دينية، بمحاولة الهيمنة على المشهد بحقائق مطلقة ودكتاتوريات جديدة. واعتقادي أن هذه القوى سوف تتلاشى، لأنه في نهاية المطاف، من غير الممكن للخطابات الاستبدادية الإقصائية أن تلبي احتياجات الناس في تقديم نوعية حياة أفضل، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وغير ذلك. وكما أثبت التاريخ بصورة ساحقة، أنه حيثما تحترم التعددية، ينبت الازدهار. وعلى النقيض مما كانت المجتمعات العربية تتعلم الإيمان به منذ عقود من قِبل حكوماتها –بأن تقبّل وجهات النظر المختلفة، وبخاصة السياسية منها، والتفكير النقدي، هي عوامل مدمرة للوحدة الوطنية والنمو الاقتصادي- فإن التجربة تثبت أن المجتمعات لا يمكنها أن تستمر في تجديد ذاتها وتحقيق الازدهار إلا من خلال التنوع. في نهاية المطاف، لم يتمكن لا النموذج الإيراني المتمثل في ولاية الفقيه، ولا النموذج  المدني الاستبدادي لنظام مبارك، من النجاح في حل التحديات الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية لدولها.

لكن ذلك الإدراك لن يأتي تلقائيا أو بسرعة. ولن يتم الإدراك بأن النجاة ستأتي من التنوع والتعايش، ومن خلال عقلية جديدة تدرك أخيراً جمال –وقوة – الفروقات، تلقائياً، بل سيتطلب عملاً متفانياً ومتواصلاً على أرض الواقع لعقود آتية.

بعبارة أخرى، ليست هناك طرق مختصرة للديمقراطية، ولن يتحقق الازدهار واحترام التعددية بالتمني. لقد بدأت اليقظة العربية الثانية للتو، وقد لا تكون النهاية معروفة في فترة حياة هذا الجيل. ولكن هذه معركة تستحق خوض غمارها وكسبها. إنها معركة من أجل التعددية في كافة أنحاء العالم العربي.

أقول لقوى الوضع القائم: من المبكر جدا دفن "الربيع العربي"، ودفن أحلام الناس بمستقبل أكثر إشراقا.

الغد

أضف تعليقك