هل تُلغى خطبة الجمعة؟

هل تُلغى خطبة الجمعة؟
الرابط المختصر

لم ينته الجدل بين دارسي التاريخ والفقه الإسلامي حول عدم توثيق خطب الجمعة التي يُفترض أن النبي محمد قد ألقاها بعد الهجرة من مكة إلى المدينة، في فترة جاوزت 10 سنوات من المتوقّع أن تشتمل على 500 خطبة تقريباً.

قد يستغرب البعض أن هذا النقاش يدور عادةً بين المنتمين للرواية الدينية السائدة وتفسيرها - لا العلمانيين-، إذ ينبّهون إلى تأخّر تدوين الحديث النبوي (الذي يختلف كثيرون حول منهجيته وصحّة مخرجاته) وأن بعض نصوصه فقط أشارت إلى القليل من الخطب المنسوبة للرسول دون أن تُذكر تفاصيلها.

في الصحافة السعودية، مثلاً، تناول العديد من الكتّاب مسألة غياب خطب النبي، وتجرأ البعض في القول إن البحث والتنقيب حولها هو مسؤولية المؤّرخ – الذي يُمنع من الخوض في تاريخ الإسلام ونشأته- لا مسؤولية الفقيه الذي يحتكر هذا الدور منذ أكثر من 12 قرناً، رغم ضعف حججه ولجوئه الدائم إلى تكفير كل من يفكّر في هذا السياق، بذريعة التآمر على الدين وأهله.

وحتى الخطب التي جُمعت من العصر الأموي، وهي كثيرة، فإن دائرة الشك فيها تكبر نظراً إلى أن المستفيد من رسائلها ومضامينها هم العباسيون الذين أتوا بعدهم، ودوّنوا منها ما يدين أسلافهم وأفعالهم الظالمة، ويمنح حكمهم الجديد الشرعية.

ورغم أن فقهاء الإسلام قد انقسموا حول وجوب خطبتي الجمعة من عدمه، إلاّ أن السلطة تمسكّت بها كوسيلة دعاية رئيسية لها، حيث حوّلت الخلافة الأموية خطباء المساجد إلى ناطقين إعلاميين لتثبيت نظامها، الذي لم يقبل التعدد، وللرد على خصومها حدّ تكفيرهم وشتمهم على المنابر (على أن هذه الممارسة يجب أن تمحّص في سياق بحث موسّع قد يظهر يوما ما). بالمقابل فإن جميع الاحتجاجات ضدهم استخدمت المسجد وخطباءه، كذلك، لتعبئة المحتجين ضد ظلم الدولة وإقصائها. 

مع قيام الدولة "الإسلامية" واستقرارها في أكثر من مرحلة، أصبحت الإمامة والخطابة وظيفتين مدفوعتي الأجر تخضعان لرقابة المؤسسة الرسمية وتدّخلاتها، مثل غيرها من سائر المهن، مع اختلافات لها اعتباراتها وتتعلّق بأن الفضاء العام المتمثّل في المسجد أوجد هامشاً من التفاعل بين المجتمع الذي قد تُفرز طبقاته وفئاته قوى وممثّلين عنه دينياً، ما يتيح للحكم الاختيار منهم عبر تظهير بعضهم والتعتيم على آخرين.

ظلّ "المسجد" مرتهناً للأنظمة، وفق هذه الآلية، تماماً كما وظّفته الانقلابات لتحقيق مرادها، ولم يختلف الحال في عصرنا الحديث، إذ تواصل منْح رجال الدين حرية التحرك ضمن قواعدهم الاجتماعية لضمان السيطرة عليها.

لم تتطوّر مهنة خطيب المسجد، وتنقصنا جرأة القول إنها أضرّت بتطور المجتمعات العربية، فليس مقبولاً تحميلها قداسة وسلطة معرفية للعديد من آراء خطباء الجمعة التي ناقضت وتناقض دساتير حكوماتنا العربية التي وضعت بعد الاستقلال لتعبّر عن العقد الاجتماعي الناظم لمواطنيها، الذين يتساوون في الحقوق والواجبات أمام القانون.

ولا معنى لدعوات الإصلاح، إذا كان خطباء جوامع قادرين على التأثير باتجاه خلق وعي شعبي رافض للعديد منها، وهو أمر قائم حتى اليوم حين يدعو أئمة - ينالون دخلهم الشهري مما ندفعه من ضرائب – إلى تحريم ما تقرّه قوانين الدولة، وهو دور تستغلّه السلطات من أجل التنفيس عن غضب شعبي عبر التنسيق مع خطبائها.

أتابع أحياناً خطباً يكتبها ناشطون علمانيون على صفحاتهم في وسائط التواصل الاجتماعي، كردة فعل على جهل خطباء الجمعة وضعف معرفتهم وركاكة لغتهم وقصور رؤيتهم وإنشائيتهم المفرغة والمجانية، وكذلك في دعوات يُطلقها بعض المتدينين في إمكانية تنظيم محاضرات توعوية في مجالات التربية والاقتصاد والبيئة بدلاً من هذه الخطب البالية.

قد تبدو هذه الاقتراحات معقولة في دوافعها وأهدافها، لكنها ستصطدم مع تساؤلات لا مفّر من مواجهتها؛ هل يمكن استبدال المرجعية/ المرجعيات القائمة على خطبة الجمعة حالياً واحتكارها لها في الواقع؟ كيف يستطيع أصحاب الأفكار الجديدة من دعاة "تطوير" خطبة الجمعة، أو حتى إلغائها، أن يحقّقوا مرادهم؟ وهل سيفرضونها بالاعتماد على سلطة تستفيد وتوظّف الخطباء على مدار القرون الماضية؟

ليست نبوءة أن هذا الحراك لن يتوقّف ولن يتمكّن أحدٌ من توقّع تداعياته في ظلّ الانقسامات الدينية والمذهبية والسياسية في المنطقة، لكن من شبه المؤكّد أن دوامّة العنف ستتواصل وتتعقّد لسنوات مقبلة وقد تحدّد مصير المنبر الذي يرتبط بآليات الدعاية للسلطة وخطابها لا بغيرها.

 

محمود منير: كاتب وصحافي. محرر "تكوين" في عمّان نت.