هل تحتضر لغة القرآن؟

هل تحتضر لغة القرآن؟
الرابط المختصر

 

 

ربما يكون العرب هم المجموعة البشرية الوحيدة، التي تزيد عن 300 مليون نسمة، ويمثّلون أغلبية في بلدانهم الـ22، غير أن لغتنا العربية تموت بوصفها لغة لا تتنج المعرفة، والتواصل بها في تراجع، ولا استثمار جدّي بها –وهو الأهم- باستثناء مشاريع شكلية تُطلق في سبيل تلميع النخب الحاكمة.

 

لا مكان ومكانة للغة في العالم المعاصر من دون شعب يفكّر وينتج بها، ونحن لم نحدّد حتى اللحظة ماهية عجزنا اللغوي، ونصرّ على وجود "حرب" تُخاض ضد العربية سواء من الخارج، أو بسبب تعاظم اللهجات المحكية، وإيماننا بـ"صمودها" كونها لغة القرآن ولغة أهل الجنة ذريعة يعفينا من القيام بمسؤوليتنا تجاهها.

 

ملاحظة أساسية لا تغيب لدى التنقيب عن أزمة اللغة العربية، وتتمثل بغياب الأهداف المرجوة والواقعية من النهوض بـ”العربية”، بدليل أن الدراسات المنشورة فقيرة وتجتر بعضها، والأهم من ذلك كلّه أنها أسيرة سلطتين؛ سلطة الغيب التي لا تزال تحفظ لغتنا رغم كل مظاهر الانحطاط والتخلف، وسلطة القبيلة التي لا ترى في لغتها سوى أنها "فولكلور" ضمن هوية جريحة ومكابرة.

 

لا يملّ أدباء وأكاديميون، بمناسبة الاحتفال بيوم اللغة العربية كل عامٍ (18 كانون الأول/ ديسمبر)، الاعتراض على استخدام اللهجات العاميّة عبر الفضائيات والانترنت، متناسين أن الإعلام يشوّه "العامية" ويبتذلها، وقد ضاعت آلاف الأغاني والحكايات لأن الموروث الشعبي لم يُوًّثق بلهجاته المحكية كذلك، وعلينا الكفّ عن افتراض "التناقض" بين الفصيحة و"المحكيات"، رغم أنهما وثيقتا الصلة ويشكّلان معاً ثقافة ومجتمعاً واحداً.

 

وعلينا الاعتراف بأن خسارتنا الأكيدة ليست بسبب انتشار تعليم اللغات الأجنبية، إنما خسارتنا المحققة في تنشئة أجيال تتقن لغتين؛ العربية ولغة آجنبية في آن، فعشرات ملايين العرب تستخدم الإنجليزية والفرنسية للتواصل فقط، وتعوزها القدرة على البحث والكتابة والابتكار بهما، وبذلك لم نستفد من اللغة الثانية والثالثة لأننا خسرنا لغتنا الأم ابتداءً.

 

ضعفنا باللغات يؤسس- بالعموم- طبقتين اجتماعيتين؛ الأولى تشعر بالتعالي لأنها تتحدث بلغة أوروبية واحدة على الأقل وتتخرج من مدارس خاصة بعينها، والثانية تعيش الاضطهاد لأنها لم تتلق تعليماً جيداً باللغة online casino والحساب وجميع الحقول الدراسية، وتظن أن مؤامرة تحاك ضد "عربيتها"، غير أن الطبقتين لا تمتلكان اللغة، حقيقةً، لأنهما عاجزتان عن الإنتاج المعرفي بكل اللغات؛ عربية وإفرنجية.

 

لنكدّر احتفالاتنا هذا العام بـ"عربيتنا"، ونُذكّر بأن "الانجليزية" تجتاح العالم بأسره، ومع ذلك فإن استثمار الأمم بلغاتها في ازدياد، ما تؤكده نسب القراءة والتأليف والبحث العلمي والترجمة والصناعات الثقافية في إحصائيات تضع العرب في ذيلها مجاورين بضع دول إفريقية (الدول العربية تحتل المرتبة ما بعد 120 في اعتماد لغتها قاعدةً للتنمية البشرية)، ولا يكمن الفشل في شح الإنتاج بلغتنا؛ كماً ونوعاً، بل في الإخفاق التام في وضع منهاج دراسي واحد، في أي دولة عربية، يكون قادراً على رفع مستواها لدى الطلبة.

 

إزاء هكذا واقع يصبح الحديث عن قانون حماية اللغة العربية، الذي أنفذته الحكومة الأردنية منذ ثلاثة شهور، مادة للتندر والسخرية، حيث ينشد القانون استخدام العربية في التعليم والمعاملات الرسمية والإعلام والبحث العلمي وغيرها، ويفرض غرامات على المُخالفين، وهو ما يبدو مستحيلاً أن يغّرم شعب بأكمله بالنظر إلى شلله اللغوي المريع.

 

يقال إن العربية مشتقة من "الإعراب"؛ أي الإفصاح والإبانة، غير أن أبناءها يديمون الالتباس والتضليل حين يرفضون التخلي عن عقلٍ أسطوري يعتقد بـ"قداسة" لغته أو تفوقها القومي، والنزول إلى الواقع حيث علينا أولاً وأخيراً تحديد ماهية علاقتنا باللغة، التي ترتبط أساساً بالتفكير، الذي يعجز أصحابه عن التغيير إذا كان مستلباً خارج وجوده.

 

النهوض باللغة وحمايتها يحتاج إلى استثمار عبر حكومات مستقلة اقتصادياً، تنشئ أجيالاً تمتلك منهجية علمية في التفكير، وحينها سنعيش داخل اللغة، باعتبارنا منتجين ومتفاعلين مع الحضارات الأخرى، لا مستهلكين يمكنهم تصريف الحياة مكتفين بلغة الإشارة والجسد.

 

محمود منير: كاتب وصحافي. محرر "تكوين" في عمان نت.