هزيمة «داعش».. مواجهة المتطرفين وليس التطرف

 

 

انحسرت سيطرة تنظيم «داعش» على أجزاء واسعة من الأراضي والناس في العراق وسوريا. وبشكل عام، فإن المواجهة العسكرية والأمنية مع الجماعات المتطرفة والإرهابية تنجح في المحصلة، عندما تكون المواجهة مع تنظيمات أو تجمعات أو قواعد يمكن تحديدها أو معرفتها، لكن وبرغم الجهود الكبيرة التي يبذلها العالم في التنسيق والمواجهة الحازمة، فقد ظلت الجماعات قادرة على مواصلة عملها وتجديد حشد الأنصار والمؤيدين والنفاذ من جدار المواجهة ضدها، إذ كانت تجد على الدوام ثغرات في هذا الجدار، وإن بدا مصمتاً وقوياً!.

 

يمكن الملاحظة والتقدير، أن ثمة بيئة حاضنة ومشجعة للتطرف والكراهية، كما توجد دائماً، وللأسف الشديد، فرص وحالات من التحالف والتعاون الظاهر أو المستتر مع الجماعات المتطرفة والإرهابية، فكانت غالباً تجد ملاذات آمنة للتخفي والإقامة والعمل وإعادة تشكيل نفسها، أو تساعدها ظروف تنظيمية واجتماعية في الدول الهشة أو في المجتمعات المهمشة أو الغاضبة أو الانفصالية. 

 

وعلى الجانب الآخر، من مشهد المواجهة مع التطرف والانتصار على الإرهابيين، يمكن ملاحظة حالات إنسانية وقانونية كثيرة جداً، من المعتقلين وأسر المتطرفين والباحثين بلا أمل عن مأوى أو عمل أو فرص جديدة للحياة، كما أن ضحايا الجماعات نفسها من المختطفين وأسر القتلى والمفقودين يشكلون تحدياً إنسانياً واجتماعياً لمساعدتهم ودمجهم من جديدة في مجتمعاتهم وأعمالهم. 

 

وربما يكون التحدي الأكبر والأكثر خطورة في مواجهة التطرف، أن مؤيدي الجماعات المتطرفة وأنصارها أيديولوجياً ما زالوا يحملون الأفكار والمواقف المنشئة لهذه الجماعات، وما زالوا أيضاً يعيشون الظروف السياسية والاجتماعية، التي جعلتهم يؤيدون ويحتضنون هذه الجماعات! 

لقد وصلت المواجهة مع الإرهاب في مجال العمل العسكري والأمني إلى مستوى من الكفاءة لا مجال للمزايدة عليه. لكن ثمة مخاوف من قدرة الدول والتحالفات الدولية على الاستمرار بسبب تكاليف المواجهة المالية والمعنوية، والإعياء القتالي والنفسي في المواجهة، ذلك أن الانتصار يشكل تحدياً للمنتصر مثل المهزوم، إذ يجب أن يتبع الانتصار نهاية المعركة وتسوية النتائج وتكييفها على الواقع، فلا يمكن أن تستمر المواجهة إلى الأبد، وإذا استمرت فلا تستطيع أن تحافظ على مستواها واستعداداتها المادية والمعنوية في مواصلة المواجهة، وما من دولة مهما كانت قوية وغنية لا تتأثر بالتكاليف المادية والمعنوية المرهقة للقتال والمواجهة، فالإنفاق العسكري والأمني يجب أن يغطيه نمو اقتصادي يكفي للاستمرار، ويكفي أيضاً للالتزامات التنموية والمعيشية للدول في التعليم والصحة والتكافل الاجتماعي والمرافق العامة. 

 

هكذا تظل الأسئلة التقليدية عن مستقبل التطرف والإرهاب ملحة وتفرض نفسها، هل سيجد المتطرفون أماكن وفرص جديدة للعمل والتخفي؟ هل يستمر العنف؟ هل يعود مرة أخرى إلى البلاد والمجتمعات التي هزم فيها؟

 

يمكن الإجابة ببساطة، أن التطرف والكراهية حالة كامنة، تنشط أو تختفي حسب مناعة الأفراد والمجتمعات وكفاءة الدول والمؤسسات التنظيمية والقانونية، فالمواجهة الحقيقية والحاسمة ليست في الانتصار على المتطرفين، لكن في الانتصار على التطرف، إذ ستؤدي الأسباب المنشئة للتطرف إلى عودة ونهوض المتطرفين، وفي ذلك تعتمد قدرة أعضاء الجماعات في مواصلة العمل أو التخفي على ضعف القدرات الأمنية والعسكرية للدول، وتوفر ملاذات آمنة أو ملائمة، وبطبيعة الحال، فإن الصراعات والخلافات الدولية والإقليمية تمنح هذه الجماعات فرصاً للمساعدة والإيواء مقابل التعاون في الصراعات. 

 

ولذلك، فإن احتمال استمرار العنف والتطرف سيظل قائماً، ويملك أسباباً منطقية، فما دامت هناك كراهية سيكون هناك مجال للتطرف والعنف، ولا معنى للانتصار العسكري والأمني للدول إذا لم تنشئ سياسات لاقتلاع أسباب الكراهية والتهميش والفقر والغضب.

 

وفي المقابل، فإن سيناريو انحسار العنف والتطرف يملك أسباباً وجيهة وقوية، ربما تفوق أسباب الاستمرار، فالدول والمجتمعات تملك مزيداً من الإرادة والوعي بالمواجهة مع الكراهية، ويملك التسامح والاعتدال مزيداً من التأييد المجتمعي، والأمم بطبيعتها تميل إلى الاستقرار والسلام، فلا يمكن تدبير المصالح والحياة والتقدم فيها وتحقيق الازدهار من دون الأمن والاستقرار. وكانت تجربة المجتمعات مع الجماعات المتطرفة مؤلمة، ولم تعد تملك تأييد بداية صعودها وانتشارها، كما اكتسبت الدول والمجتمعات خبرات مهمة في المواجهة.

 

وثمة ما يدعو إلى الاعتقاد، بأن موجة التطرف الديني قد اكتملت بعد خمسين عاماً من صعودها، وأن التحولات الاقتصادية والتكنولوجية التي تغير العالم سوف تغير أيضاً الاتجاهات الفكرية والفلسفية، لكن يرجح أن انحسار العنف لن يكون تلقائياً، ويعتمد على منظومة من المبادرات الاجتماعية والاقتصادية الناجحة. وهي ببساطة سياسات اقتصادية اجتماعية، تستهدف تحسين الحياة وفرص التقدم الاقتصادي والاجتماعي، من خلال زيادة كفاءة التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والعمل والتدريب وتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، التي تمكن الأفراد والمجتمعات من المشاركة الاقتصادية والاجتماعية الفعالة.

أضف تعليقك

باحث وكاتب صحفي أردني، يكتب في الصحف والمجلات الأردنية والعربية، وصدر له عدد من الكتب والدراسات في مجالات الفكر الإسلامي، والعمل الاجتماعي، والتنمية والإصلاح، وعروض الكتب، والثقافة، كما عمل في مجال الدراما وقدم برنامجا تلفزيونيا عن الكتب.