هذا الولد ليس مثلك

هذا الولد ليس مثلك
الرابط المختصر

لا أدخل معرض كتاب، إلا وأقصد دار الآداب، لأتفقد جديد الروائية سحر خليفة. وفي معرض الدوحة نهاية العام الماضي، فوجئت أنّ موضوع روايتها الجديدة "أرض وسماء"، كما قالت الفتاة في دار النشر، هو شخصية أنطون سعادة (1904-1949)؛ الزعيم التاريخي للحزب السوري القومي الاجتماعي. تساءلتُ: هل خرجت خليفة من المحيط الفلسطيني؟

في يوم من الأيام، في الثمانينيات، وأمام بائع صحف قرب مطعم "هاشم" وسط عمّان، وقف شخص طويل جداً. كان ثملاً جداً، يصرخ صباحاً، بأعلى صوته: "لو جاء الحزب السوري القومي الاجتماعي هنا، لما حلَّ المشكلة". عادت ذكرى الرجل لي أكثر من مرة في حياتي. هل كان حقاً مأزوماً ومألوماً لواقع ما، وكان الحزب أمله يوماً، أو حلمه؟

وارتبطت القصة بمعلوماتي عن زميل في الجامعة الأردنية، كان أسيراً محررا، أمضى نحو عقدين من الزمن لدى الإسرائيليين بعد تنفيذه عملية فدائية. وبعد خروجه من المعتقل، كتب تجربته في كتاب عنوانه "الحياة وقفة عز"، وانضم إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي لم أكن أعرف عن وجوده في الأردن.

قدّم لنا أساتذتنا في الثمانينيات نبذة عابرة عن الحزب، بقالب لا يخلو من السخرية؛ بأنّ أنطون سعادة مؤسس الحزب، يريد أمة ودولة تشمل سورية الطبيعية، ومعها قبرص. ورغم أنّ بعض أجرأ عمليات المقاومة في لبنان منتصف الثمانينيات إبان الاحتلال الإسرائيلي كانت من تنفيذ عناصر الحزب، فإن ذلك لم يُحوّله إلى قوة شعبية كبرى. ولعل العملية التي نالت شهرة فائقة، هي عملية سناء محيدلي، ابنة الثامنة عشرة، التي نُفِذَت بعد سلسلة شهداء في جنوب لبنان، وقادت فيها سيارة محملة بمائتي كيلوغرام من المتفجرات، وفجرت حاجزا للجيش الإسرائيلي، منفذةً ما سمّته في شريط الفيديو الذي سجلّت وصيتها فيه -في متجر الفيديو الذي كانت تعمل فيه- "عمليات الفداء". هي طلبت تسميتها باسم "عروس الجنوب"، وغنى لها محمد منير "اتحدى لياليك يا غروب، واتوضى بصهدك يا جنوب.." ("الصّهد" هو الحرّ الشديد). كما غنى لها وديع الصافي وغيره.

شغلني وأنا أتقدم في صفحات الرواية سؤال: هل غيرت خليفة أسلوبها؟ هي رائدة في الواقعية في الرواية الفلسطينية الجديدة، أليست هي التي جعلت إحدى شخصيات روايتها "باب الساحة"، تُسمّي فلسطين "غولة" تأكل الأحبّة؟ لماذا هذه الرومانسية القريبة من التقديس أحياناً لسعادة؟ هي حبَكَت الرواية بحيث تكون قصة سعادة وناموسه (مساعده ورفيقه، وهو فلسطيني أديب وشاعر. وهناك مرافق آخر فلسطيني. وكلاهما قاتلا العام 1948 ورأيا في سعادة وحزبه طريقاً للتحرير والعودة).

رغم النبرة التوثيقية في الرواية، إلا أنّ فيها لمسات لافتة، مثل شعار الزوبعة للحزب، والتي ادّعى البعض أنها نسخة مقتبسة من الصليب النازي المعقوف، ليتضح أنّها "فرفورة" (لعبة الأطفال المعمولة من الورقة لتدور مع الهواء)، ولأنها أيضا تشكل صليباً تحيطه أهلّة. ومن الرواية عرفت أنّ عبارة "الحياة وقفة عز" تعود لسعادة.

بحسب حبكة الرواية، تكون أوراق ومذكرات ناموس سعادة، مخبّأة في حارة "حبس الدم" في نابلس، إبان انتفاضة الأقصى. وتعود الأسئلة الواقعية عند خليفة، فتتساءل شخصيات الرواية: هل كان يجب أن يهرب سعادة ولا يواجه الإعدام بشجاعة، كما هرب بعض مرافقيه وأنصاره؟ ويتوازى السؤال بإشكالية: هل على الشاب سعد، المطارد في محيط نابلس، أن يهرب من فلسطين إلى كندا؟

تتحدث خليفة عن "هروب الطير من الشجر"، و"النجوم من القمر"، و"الوجوه من الصور"، و"الدنيا التي تلف". وتتذكر بطلة الرواية حبيبها الذي هرب يوماً من فلسطين، وهرب من بعدها من مرافقة سعادة. وتُحاول الفتاة، حبيبة سعد، أن توسطها لتقنع الفتى بالهرب، وهي لا ترد بل تغرق في التفكير بشأن موت الروح والقلب، الذي يسببه الهرب. <

يخرج سعد من فلسطين، ويتوه قليلا. ولكنّنا نراه في مشهد الختام، في حفل تخريج حبيبته في بيروت، وفلسطين تسكن عينيه وروحه. وتنهي خليفة الرواية، وهي تخبر حبيبها الذي هجرها يوماً هرباً من القمع والموت: "حمدا لله، هذا الولد ليس مثلك". ويرد: "ولا مثلك". وتنتهي سطور الرواية بنشيد "نحن الشباب لنا الغد"

الغد

أضف تعليقك