لا أعرف الشاب سائد العوران، لكنني سمعته أكثر من مرة وهو يتحدث عن هموم أهلنا في الطفيلة، وعن حقوق الشباب “المهمشين” الذين وقعوا ضحية لسياسات حكومية اتسمت بالإهمال والاستعلاء بتعاملها مع الناس.
أعجبني خطابه الذي يعبر عن وعي سياسي والتزام بأخلاقيات العمل العام، وكنت أتمنى أن نلتفت لهذا الجيل الجديد الذي خرج من رحم “المحنة” كي يؤسس لمرحلة جديدة، أكثر ما نحتاج فيها لصنف جديد، مثل سائد، يعيد الحيوية لمجتمعنا، ويكسر “احتكار” الطبقة السياسية التقليدية للعمل العام، ويطلق صفارة البداية للبحث عن القيم الوطنية الحقة التي تتجاوز الحسابات الضيقة وتضع مصلحة البلد على الدرجة الاولى في سلّم الاولويات.
أمس، انحاز زملاء سائد اليه في انتخابات فروع النقابة، واختاروه كي يمثلهم فيها، كان هذا الموقف - بالطبع - كافياً للتعبير عن وزن هذا الشاب وما يحظى به من تقدير واحترام من قبل أهله وزملائه، وكان - ايضا - رسالة لمن لا يعرفه، أو لمن اساء به الظن، كي يعيد احكامه التي لم تكن صحيحة.
بالنسبة لي شعرت بسعادة بالغة حين سمعت بفوز هذا الشاب الذي ما زال موقوفاً في السجن، لا لأن “عضويته” في النقابة التي ناضل من أجلها ستضيف اليه أو تعلي من شأنه، انما لأن ما حصل يعكس وعياً بدأ يتسرب الى مجتمعنا بقوة، وهذا بالطبع أحد آثاره، حيث سقطت كل محاولات التشويه والادانة التي كانت تمارس سابقاً لتهميش الاشخاص أو اقصائهم، وثبت أن خيارات الناس متى وجدت الأبواب المشروعة مفتوحة أمامها، لا تختار من الناس إلا من تثق به، كما انها لا تخضع لأية ضغوط اخرى مهما كان نوعها.
لا يمثل، سائد وزملاؤه، النموذج الذي أنفناه في السنوات السابقة: نموذج الصراع على المكاسب السياسية، أو نموذج البحث عن “الاضواء” في بلد احتكرت الاضواء فيه طبقة محددة، أو نموذج “الاستقواء” على الدولة لانتزاع ما يمكن من مصالح شخصية او للدخول الى نادي “اللاعبين” المحترفين و”الشطار”، ولكنهم يمثلون نموذجاً جديداً، لطالما افتقدته بلادنا منذ زمن بعيد، وهو نموذج يجمع بين حماسة الشباب وحكمة الكبار، خطابه يتسم بالشجاعة والجرأة، لكن مع التزام بأخلاقيات العمل السياسي، مواقفه لا تخضع لموازين المساومة لكنها “ناصعة” بما يكفي لابداع ما يلزم من حلول.
مشكلتنا مع هؤلاء الشباب أننا لم نفهمهم، ولم نثق بهم، ولم نعرف وزنهم في الشارع بعد سنة - على الاقل - من حراكاتهم، ومشكلتهم أنهم ولدوا في عصر اختلت فيه تقاليدنا واعتباراتنا القيمية والسياسية ووجدوا أنفسهم امام “ازمان” تتوالد لم نتعامل معها بمنطق يطمئنهم على أننا قادرون على تجاوزها.. وبالتالي حدث ما يشبه الصدام بينهم وبين المسؤول، وهو صدام وعي أولاً، وثقافة ثانياً، وصدام اجيال ايضاً، لكن - للأسف - نتيجته معروفة، وهي لمصلحتهم، كما ان مسؤوليته تتحملها “الدولة” التي واجهتهم بالصدّ بدل ان تحتضنهم، وبالعقاب بدل ان تكافئهم.
ومع ذلك، فإن ثمة تحولاً جديداً يفترض ان ننتبه اليه، وهو ان مجتمعنا الذي كان فيما مضى يكتفي بمؤازرة هؤلاء “الخارجين” عن وصايته بالصمت أو بالكتمان (هذا اذا لم يطردهم من حمايته)، ها هو الآن قد تغير، وأشهر انحيازه لهم، لا من خلال “صناديق” الانتخابات النقابية فقط، انما من خلال اشكال اخرى من التضامن لا تخطئها عين أي مراقب.
span style=color: #ff0000;الدستور/span