نعم.. الإصلاح الشامل مسؤولية جماعية

نعم.. الإصلاح الشامل مسؤولية جماعية
الرابط المختصر

تشهد بلادنا هذه الأيام حراكاً جماهيرياًً واسعاً يختلط ويتداخل فيه السياسي والاقتصادي والاجتماعي في صورة مركبة يصعب تحديد الفواصل بينها، وبما يشبه المخاض، وما يصاحب ذلك من جدل وتباين في الرؤى واختلاف في الآراء، وبالتالي، المواقف، من أجل الوصول إلى الحلول المناسبة لما نواجهه من مشاكل ومصاعب وتحديات. وفي خضم التغيرات الإقليمية والدولية التي تشهدها المنطقة والعالم، وتؤثر علينا شئنا أم أبينا، كون قدرنا أن نكون في عين العاصفة التي تحيط بنا، لأسباب جيوسياسية معروفة، وتحديداً استهداف الأردن من قبل المخطط الصهيوني الذي لم يتوقف، بل يزداد خطورة يوماً بعد يوم.. نقول، في خضم هذه التغيرات المستجدة، والأطماع العدوانية المحدقة قديمها وحديثها، وفي ضوء تفاقم الأزمة الاقتصادية التي وصلت إلى مراحل بالغة الخطورة نتيجة لعوامل عديدة، منها ما هو خارجي، ومنها ما له علاقة مباشرة بالسياسات الاقتصادية الخاطئة والمدمرة التي مارستها حكومات متعاقبة، إضافة إلى الفساد واستباحة المال العام، دخلت البلاد في مرحلة حساسة تفرض على الجميع، مسؤولين ونخبا سياسية واجتماعية، وقفة صادقة لتشخيص الأزمة التي نعيشها، والحوار الجاد والمسؤول حول أفضل السبل للخروج منها، والوصول ببلدنا إلى بر الأمان. ولا يمكن بأي حال وضع الحلول قبل تحديد المشاكل والتحديات بدقة وبسرعة، كون عامل الوقت أساسيا لوقف تفاقم الأزمة وتداعياتها المحتملة.

ومن هذه التحديات:

التحدي السياسي

لقد مر الأردن منذ إنشاء الإمارة بالعديد من محطات التحدي والمخاطر نتيجة لارتباطه العضوي بالقضية الفلسطينية، وما يعنيه ذلك من أطماع وتهديدات صهيونية تستهدف، من ضمن ما تستهدفه، حل القضية الفلسطينية على حسابه، انسجاماً مع أهدافها في تصفية الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقه في إقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني، وحق اللاجئين في العودة والتعويض، فضلا عن الأطماع الصهيونية القائمة تجاه الأردن. وقد استطاع الأردنيون بوعيهم ووطنيتهم الصمود في وجه التحديات والأطماع على الرغم من عظمها وشراستها. ويقيناً أن كل ما مر به الأردن من أحداث خطيرة كانت في أساسها من صنع أعدائه التواقين دائماً لإضعاف كيانه، مستخدمين كل أشكال المؤامرات والتخريب، وفي المقدمة منها المحاولات المحمومة لتفتيت نسيجه الاجتماعي وبث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد. وقد كان الأردن والأردنيون يخرجون دائماً أكثر قوة وصلابة وتماسكاً بعد كل محطة من محطات التحدي هذه.

نعم، هذه هي الصورة العامة لطبيعة التحدي الذي عاشته بلادنا، لكن وللأسف، حصلت انتكاسات وأخطاء في مسيرة الحياة السياسية في خضم مواجهة هذه التحديات، والتي يتحمل الجميع (حكومات ومعارضة) مسؤوليتها، والتي تم التعبير عنها بشكل صادق وصريح في الحراك الوطني الذي أعقب أحداث العام 1989، وما تمخض عنها من "مصالحة تاريخية" بين النظام السياسي وكافة أطياف المعارضة، توجت بالتوافق حول الميثاق الوطني الذي أكد على الثوابت الوطنية المنسجمة مع الدستور، هذا الميثاق الذي أسس لمرحلة الديمقراطية الحقيقية في الأردن لتكون الأساس لحياة سياسية عناوينها قيم الحرية والكرامة وحقوق الإنسان، والمشاركة الحقيقية في صنع القرار، وما يرافقها من تشريعات تساهم في التنمية السياسية، التي تشكل القاعدة الضرورية لتحقيق هذه القيم النبيلة التي يستحقها شعبنا الأردني، وقد شكلت انتخابات العام 89 التشريعية، على حداثة تجربتها الديمقراطية، خطوة إيجابية في الاتجاه الصحيح الذي حدده الميثاق، وهي انتخابات جرت وفق قانون الانتخاب للعام 1986 الذي يأخذ بنظام الدوائر الانتخابية الواسعة، ولم يكن هناك داع لاستبداله بقانون الصوت الواحد.

ومع أن المراحل الأولى من هذه الحقبة كانت مبشرة، على الرغم من التحديات الاقتصادية والسياسية الإقليمية التي رافقتها، إلا أن قوى الشد العكسي وأصحاب النفوذ والمصالح المتناقضة مع هذا النهج الجديد، عملت بكل ما استطاعت من قوة ونفوذ على تعطيل المسيرة وحرف البوصلة، وما رافق ذلك من تراجع وانتكاسة للحريات العامة وإغراق البلاد بالقوانين المؤقتة، بما فيها قانون الصوت الواحد سيئ الصيت، وما تبع ذلك من انتكاسة أثرت على مختلف جوانب حياة الأردنيين.

التحدي الاقتصادي

لقد رافق تراجع الحياة السياسية الحقيقية، وما أفرزته من مجالس نيابية لا تعبر عن هموم وتطلعات الجماهير، فساد مالي وهدر للمال العام ، وإغراق البلاد في مديونية غير مسبوقة، انطلاقاً من قاعدة أن الفساد المالي والإداري لا يمكن أن يتم بمعزل عن الفساد السياسي.

إن استمرار وتصاعد وتيرة انحدار هذا الوضع خلال السنوات الاخيرة، فاقم من حدة الأزمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وانعكس سلباً، وبالدرجة الأولى، على الوطن بشكل عام، والمواطن البسيط بشكل خاص، وأدى إلى اختلالات اجتماعية عميقة أثرت على فئات وشرائح واسعة من شعبنا، وتحديداً على الطبقتين الفقيرة والوسطى، وما رافق ذلك من ارتفاع نسب البطالة والفقر والغلاء، وعلى قدرة المواطن العادي على تلبية حاجاته الأساسية، مما أدى إلى احتقان وتذمر واهتزاز الثقة بين المواطنين والحكومات المتعاقبة. وقد كان التأثير الأكبر على الفئات الشابة التي تعاني من البطالة وانسداد أفق المستقبل أمامها، مما أوصلها إلى القلق من واقعها واليأس من مستقبلها.

نعم، لقد شكلت الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها البلاد، إضافة إلى التراجع وادارة الظهر للتوجهات والنهج السياسي الذي أطلقه الميثاق الوطني، الأرضية والأساس لما تشهده بلادنا هذه الأيام من احتقان وحراك، يتزامن مع تغيرات ومطالبات شعبية تعم المنطقة العربية بأكملها، وإن اختلفت طبيعتها من بلد لآخر، لكن ما يجمع بينها هو الوعي الشعبي بحقوقه في الحرية والكرامة والديمقراطية والمشاركة الحقيقية في إدارة شؤونه، واختيار ممثليه ومحاسبتهم، ومحاربة الفساد والدفاع عن مصالح الوطن.

ولكن، وفي خضم هذه التغيرات الإقليمية، والتناقضات والمشاكل التي يعاني منها مجتمعنا الأردني، وبخاصة الشباب منه، تطرح أسئلة: إلى أين نحن ذاهبون، وماذا نريد، وكيف لنا الخروج من الأزمة التي نعيش، وما هي الآليات والاجراءات التي توصلنا الى بر الأمان؟

إن الإجابة عن هذه الاسئلة وغيرها التي تشغل بال شعبنا بكافة فئاته وشرائحه، ترتكز على قاعدة صلبة واحدة، وهي أن لا بديل لنا عن حماية بلدنا ومنجزات شعبنا الطيب التي يحسدنا عليها الآخرون، على الرغم من قلة الموارد وضعف الإمكانات.

صحيح أن هناك أخطاء جسيمة ارتكبت وما تزال، كالفساد والتطاول على المال العام، والاثراء غير المشروع، والتراجع الواضح في منسوب الديمقراطية والحريات العامة، والتي أفرزت واقعاً مشوهاً وبروز ظواهر غريبة على بلدنا، تتمثل في الولاء لاشخاص ومراكز قوى، بدل الولاء للدولة، مما ادى الى صراعات على السلطة من قبل هذه المراكز. فمن جهة، تحاول طبقة سياسية تقليدية هيمنت على الحياة السياسية لعقود طويلة الاستمرار في نفوذها بل وتوريثه، ومراكز أخرى حديثة العهد بالسلطة تمتلك إمكانات مالية ونفوذا وشبكة متشعبة من العلاقات العامة الداخلية والخارجية، ما أدى إلى تقسيم البلاد والعباد، وما رافق ذلك من احتقان وعنف اجتماعي، وعدم الاستقرار، وانتشار الإشاعات التي بلبلت الشارع وغدت حديثه اليومي.

التحدي في المجال القضائي

إن من أخطر ما واجهه بلدنا خلال السنين الماضية وما يزال، هو اضعاف دور القضاء، الضامن القوي للعدالة، والمراقب الأمين لأداء السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتغول الحكومات عليه. حيث تم سن العديد من القوانين المؤقتة التي أدت الى حدوث الخلل في المعادلة بين السلطات الثلاث والتي كفل انسجامها وتناغمها والفصل بينها الدستور، وقانون الانتخاب المؤقت (كغيره من حزمة القوانين المؤقتة الأخرى)، الذي أفرز واقعاً سياسياً واجتماعياً مشوهاً، نموذج لما نزعم. فمثل هكذا تشريعات لا يمكن أن تؤسس لبيئة مناسبة لحياة حزبية حقيقية، ولا الى تنمية سياسية اصيلة توصلنا الى مجالس نيابية ومحلية تمثل ارادة الشعب، وحكومات تعتمد على الأغلبية النيابية، وبالتالي سيادة مبدأ تداول السلطة.

إن الخروج من هذه الأزمة متعددة الجوانب، وازالة احتقان الشارع وإِراحته، يحتاج الى اجراءات حكومية فورية لا تحتمل التأجيل تحت اي ذرائع، من أجل إصلاحات قانونية وسياسية واجتماعية، وفي المقدمة منها، صياغة قانون انتخاب عصري وديمقراطي، يضمن التمثيل الحقيقي للشعب وايجاد البيئة المناسبة لتطوير وتفعيل دور الأحزاب، واعادة النظر في كافة القوانين الناظمة للعمل السياسي والمدني والحريات العامة، ومراجعة كافة الاجراءات التي تعرقل مسيرة الديمقراطية والتنمية السياسية وحرية الإعلام.

كما أن الإصلاح السياسي لا بد أن يرافقه اصلاح اقتصادي حقيقي، بحيث يلمس نتائجه الناس، وبخاصة البسطاء من الطبقتين الوسطى والفقيرة والعاطلين عن العمل في المقدمة، وهذا لن يتأتى، في بلد قليل الموارد، من دون محاربة الفساد والقضاء عليه، والاستغلال الأمثل للموارد، وتوزيعها بعدالة على المواطنين في كافة مناطقهم، وايلاء المناطق الفقيرة اهتماماً استثنائياً لتستفيد من خطط وبرامج التنمية.

إن التأخير في اتخاذ اجراءات بناء الثقة بين الحكومة والشعب، وتأجيل ذلك او تطبيقه على مراحل، سيزيد الواقع المأزوم تعقيداً، مما سيجعل من امكانات الاصلاح المؤجل أمراً في غاية الصعوبة.

إن الحكمة ومصلحة الشعب والوطن تستوجب تكاتف وتضافر جهود جميع الخيّرين، وهم الغالبية الساحقة، من اجل حوار هادئ وهادف للوصول بشعبنا وبلدنا إلى بر الأمان، خاصة في هذه الظروف الصعبة محلياً واقليمياً ودولياً، وقد يكون الرجوع الى الميثاق الوطني ومراجعته والحوار ضمن اطاره، أحد الخيارات في المرحلة الراهنة، لأن البديل الخطير هو في ضياع البوصلة، وما يرافق ذلك من فوضى وصراعات عمياء، في بلد يمكن أن يتحول تنوع مكوناته الجميل، من مصدر قوة ومنعة، إلى مصدر ضعف وتفكك، لن يستفيد منه إلا أعداء الأردن، وفي المقدمة منهم اسرائيل، التي يمكن أن تستغل مثل هكذا وضع لخلط الأوراق في بلادنا، وهو ما انفك قادتها من غلاة التطرف والعنصرية يهددون ويتوعدون الأردن بخياراتهم ومخططاتهم العدوانية.

وهنا لا بد من التأكيد على حقيقة بالغة الأهمية، وهي أن الثوابت الأساسية التي تضمن نجاحنا في الوصول إلى حل مشاكلنا وتحقيق حلمنا في الاصلاح الشامل والناجز، لا بد أن تقوم على قاعدتين: أولاها -التمسك بنظامنا السياسي والالتفاف حوله، كونه يمثل الشرعية الدستورية والتاريخية، وصمام الامان؛ وثانيها - حماية الوحدة الوطنية من عبث العابثين والمغامرين وبعض المراهقين السياسيين، بغض النظر عن أصولهم ومنابتهم وخلفياتهم الفكرية، الذين لا يهمهم في المحصلة الا مصالحهم الضيقة، حتى وإن كانت على حساب مصالح بلد بناه أبناؤه المخلصون بعرقهم ودمهم في ظروف بالغة الصعوبة.

إننا على ثقة من حكمة قيادة هذا البلد الصامد المرابط، ووعي شعبه الطيب المعطاء، وقواه الحية، من احزاب، ونقابات، ومؤسسات مجتمع مدني، القادرة على تجاوز كل التحديات التى يمر بها، والذي جرّب مثلها الكثير، وخرج دائماً منتصراً، بل وأكثر قوة وتماسكا وصلابة. فالمحافظة على منجزات الوطن ومقدراته، كما هو الاصلاح الشامل، هي في المحصلة مسؤولية جماعية، كما يراها جلالة الملك. آملين أن تكون الحكومة الحالية قد فهمت الرسالة والمهام الجسام الملقاة على عاتقها والتي ينتظرها منها الشعب، فنحن نعيش منعطفاً حاسماً لا مجال فيه لتضييع الوقت وتبديد هذه الفرصة التاريخية.

*نقيب الأطباء السابق

الغد

أضف تعليقك