نصف حبة زرقاء

نصف حبة زرقاء

 

 

لا يكاد ينقضي شهر من دون الإعلان عن ضبط عشرات آلاف الحبوب المنشّطة جنسياً، وتُقدّر الأرقام أن مجموع مضبوطات دائرة الجمارك العامة، والإدارة الملكية لحماية البيئة، والمؤسسة العامة للغذاء والدواء بحوالي 26 مليون حبة المنشّطات الجنسية المهرّبة في عامين، وفق ما ذكرته صحيفة يومية الشهر الفائت.

 

ليس هناك إحصائيات رسمية لحجم استهلاك السوق الأردنية من "الفياغرا" وأخواتها، لكن تقديرات بيوع الشركات الغربية والآسيوية (الهندية والصينية وهما الأكثر مبيعاً؛ لانخفاض أسعار منتجاتها رغم عدم السماح بتداولها)، تشير إلى استهلاك أكثر من ثلثي البالغين في الأردن لهذه المنتجات، موزعة على الأعمار التالية: 20% من الفئة العمرية 18-40 عاماً، 35% من الفئة العمرية 40-50 عاماً، وتتضاعف النسب كلمّا تقدّم العمر.

 

العلّة الأولى تتصل بالانفصام الحاد في مجتمعنا حيال نشاطه الجنسي، فلا تزال الأساطير الشعبية حول فحولة الذكور تعدّ ثقافةً مهيمنة، حيث يفتخر الجميع بقدراته الفائقة غير معترفٍ بمشكلاته الجنسية التي تتزايد بفعل التغيرات التي طرأت على النظام الغذائي وارتفاع معدلات السمنة والسكّر والتدخين والتوتر والاكتئاب وغيرها.

 

إعلانات تُغرق المواقع الإلكترونية والفضائيات المحلية والعربية، ونشرات تملأ الصيدليات والمولات حول ضعف الانتصاب، وآلاف المراكز التي تدّعي علاجه في كل بلدٍ عربي، وهو ما يدلّ على حجم الأزمة وتعاظمها، التي يجري تسكينها فقط عبر الترويج لمستحضرات تجارية لا يحتاجها أغلبية الذين يعانون ضعفاً يمكن التخلص منه بتجاوز الجهل أو الخوف من الذهاب إلى الطبيب الاختصاصي (طبيب الجهاز التناسلي وأمراض الذكورة والطبيب النفسي بالطبع).

 

الثقافة الذكورية ذاتها تحاول إخفاء مشكلة أخرى واسعة الانتشار وتحمل آثاراً مدمّرة، وهي سرعة القذف الذي تقدّر مسوحات أولية أن ثلاثة أرباع الرجال في مجتمعاتنا العربية تعاني منه، لعوامل متعددة من أبرزها عدم وجود نشاط جنسي منتظم لدى الأغلبية بالنظر إلى تأخر سن الزواج، لذلك يلجأ كثيرون إلى المنشطات الجنسية، التي يزعم مصنّعوها أن المادة الفعّالة بها تطيل أمد العلاقة الحميمة أيضاً.

 

يضاف إلى ذلك مشكلات أخرى لا حصر لها، مع غياب دراسات وإحصائيات تكشف الواقع كما هو، مقابل تغوّل أسواق سوداء قائمة على التلاعب بغرائزنا بأساليب شتى؛ سوق يفرضها منطق الربح السريع وبيْع الأوهام، وسوق أخرى يقودها رجال دين يطرحون بدائل ونصائح للشباب من أجل "حفظ شهوته" لا صلة لها بالواقع، لكن تناقضهم الأساسي والخطير يتجسّد في الإصرار على التعامل مع المرأة بوصفها سلعة يجب "الحفاظ" على جسدها و"فتنتها"، لا كياناً مستقلاً يمتلك إراداته وخياراته.

 

ليست مصادفة أن مصلحة السوقين واحدة، وهي إبقاء الجنس داخل الصندوق المعتم، فلا يتحوّل إلى منهاجٍ دراسي يشرح أبعاده الفسيولوجية والنفسية ويخلق وعياً بدوره وحضوره ومشاكله وحلولها بلغة علمية تقرّب الواقع وتحاول فهمه، وكلتا السوقين لا تتناول العلاقة الزوجية بقدرٍ من النضجٍ، والاعتراف بداية بأمراض الذكورة بوصفها مسألة قابلة للنقاش وإيجاد حلولٍ عملية ترضي الطرفين.

 

ينبغي تعليم الثقافة الجنسية في المدارس، وتطوير الوعي بها عبر المؤسسات الصحية الحكومية، بالدرجة الأولى، وخلّق إعلامٍ متطوّر يبحث قضايا الجنس بعيداً عن خطاب العنف والتحريض لإدعاء العفة والمزاودة بها، ويبغي التفكير جدياً بإقبالنا المتزايد على المنشطات الجنسية رغم أن الكبت يكاد يكون المحفّز الأول لسلوكنا وتصرفاتنا اليومية.

 

يجدر بنا أن نتنبّه إلى أن العديد من ممارساتنا السياسية والاجتماعية والثقافية هي انعكاس لأدائنا الجنسي؛ حيث نحاكي في تصديرنا للمواقف، وتداول الشأن العام، وجدالنا حول المسائل الخلافية، اضطرابات الانتصاب والقذف السريع، ويبدو أننا نستعيض عن العمق والتراكم والعقلانية بـتناول "نصف حبة زرقاء"!

 

محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.

أضف تعليقك