نصري شمس الدين
آمن نصري شمس الدين بالفن حتى أنه اختار لحظة رحيله، وهو يغني على خشبة نادي الشرق، في دمشق، تاركاً صوتاً لن يُنسى، وغصةً بأحلامٍ وأغانٍ لم تجيء في عمره المسروق، فأبدلها ضحكةً ورضا تخفيان جروح الأصدقاء، ومأساة وطنٍ انشغل عقوداً عن تكريمه، إذ لا يزال أبناؤه يعبثون بذكريات حروبهم الأهلية.
لم يكمل عامه السادس والخمسين، حين ذهب القلب إلى أغنية أخيرة، وكثير من صمتٍ عن علاقةٍ غامضة جمعته بالرحابنة، بـ17 مسرحية و3 أفلام، وانفراط مفاجئ لعقد الشراكة الذي فُضّ بمجرد انفصال عاصي عن فيروز، لتنتهي سنوات تعاونه معهم من دون أن يظفر بدور رئيس في مسرح خلّاق احتكرته العائلة!
"احتكار" جرى التوافق عليه ضمناً، فلقد عرف شمس الدين جيداً مكانه ومكانته حين رافق فيروز في أعمال عديدة، لكنه كما وديع الصافي بدا أقل وهجاً بعيداً عنها أو برفقة مغنين آخرين، مع فارق "بسيط" أن الأول توفي باكراً (بعد سنوات قليلة من غنائه منفرداً) ولم يستطع أن يقلده أحدٌ في صوته وأدائه، بينما عاش الثاني أكثر من ثلاثين عاماً لم يتجاوز فيها ذروة إبداعه مع الرحابنة، وحاكى صوته و"سلطنته" العشرات.
وليس غريباً أن يجتمع صاحب "يا مارق ع الطواحين" بملحم بركات، الذي خرج على إثره من مظلة الأخوين رحباني رغم أن انضمامه لمسرحهما لم يدم سوى عامين، مقابل تجربة نصري معهما التي امتدت عقدين من الزمن، ولخصها بتعليق يتيم يصف فيه قسوتها ودفئها، وفق ما تقول إحدى الإشاعات، وهو ما فهمه بركات على هواه، وترجمه "غضباً" لم ينج من أثره إلى اليوم.
أثمر لقاؤه بملحم ألبوماً وحيداً، غير أنه لم يسْلم –على الأرجح- من مقارنته بأعماله السابقة، بأن يرى صورته تُختزل بـ"الطربوش"، وهو عنوان أغنية حمَل الألبوم اسمها، وبرومانسية "شكلية" وحماسة "عابرة" للبنان وجنوبه، ليُتمّ سنواته الباقية بتقديم أغانيه القديمة التي صنعت له المجد، بينما كان يؤمّن نفقات عيشه من معصرة زيتون ورثها عن أبيه.
سيظل "المختبر" الرحباني لغزاً يرتبط بشخصٍ (عاصي) استوعب بذكائه إمكانات جميع أعضاء فريقه، ونجح في توظيف معظم طاقاتهم، فنهضوا فرحين بأدوارهم ضمن أول مشروع غنائي حقيقي في المشرق العربي، لكنهم عجزوا عن الوصول إلى عقله وطريقة تفكيره، وفي هذه المساحة الغائمة التي استحوذ عليها مزاجه الشخصي، أيضاً، وقعت اختلافات كثيرة أخرجت مبدعين واستبدلتهم بغيرهم، ممسكين بجمالٍ فائضٍ من دون أن يقبضوا على رؤية قائدهم، وهذه خلاصة لا تنسحب على نصري وحده، بل تطال منصور الرحباني ذاته.
ونحن هنا إزاء مفارقتين؛ الأولى أن "دكتاتوراً" مثل عاصي قدّم أهم نقدٍ في ثقافتنا لمفهوم السلطة، بتجلياتها السياسية والاجتماعية والدينية، عبْر مسرحه وأغانيه وألحانه وحتى الرقصات التي تضمنها- كان معروفاً تتبعه لأدق تفاصيل أعماله-، والثانية أن مشروعه توقف فجأة بموته، ولم يتمكن ورثته من تجديده مطلقاً، وكأن الفن في واقعنا العربي انعكاس لحال السياسة؛ موضوعاً وشخوصاً.
تفكيك الرحباني لسلطة النص والزمن وامتداداتهما في الحكْم والدين والعادات يوازي جهد عشرات المفكرين والباحثين، وليست مصادفة أن أهم الشخصيات التي خلّقها عقله النقدي قد أداها نصري شمس الدين، ومنها "بربر" في مسرحية "ناطورة المفاتيح"، الذي يقنع جميع أهل بلده بالرحيل ليبقى ملكها حاكماً على بيوتٍ خاوية وحيطان، والمغني "عبدو الراوندي" في مسرحية "جبال الصوّان" الذي يرفض أن يكتب أغنية مديح للحاكم الظالم، وحين قدّم شخصية المختار في مسرحية "بياع الخواتم"، التي نقلها يوسف شاهين إلى السينما، حيث يخترع قصصاً عن انتصاراته المزعومة على لص يدعى "راجح".
في مثل هذه الأيام منذ ثلاثة وثلاثين عاماً سقَط نصري شمس الدين مضرجاً بالأغنية وبكبريائه...
محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.