"نسخة" جمال أبو حمدان

"نسخة" جمال أبو حمدان
الرابط المختصر

لم يكن جمال أبو حمدان بالرجل الذي تتمثّل فيه المقولة العربية: "مالئ الدنيا وشاغل الناس"، وفقاً لـ"نسخة" الممارسات التي اعتدنا على رصدها في يوميات عدد يتكاثر من الكّتاب، رغم حيازته للشهرة المتحصلة بجدارة عبر السنين، وتراكم الإنجازات النوعية العالية، وفي أكثر من مجال إبداعي ثقافي.

 

جمال أبو حمدان غريب تماماً عن "النسخة" إيّاها: نسخة القصدية الفاقعة لإدامة الحضور الإعلامي/ الاجتماعي لسببٍ ولغير سبب. وإذا ما توفر سببٌ ما وامتحناه (كتاب جديد، ندوة، سفر، حفل توقيع، إلخ)، سرعان ما نجده باهتاً، أو يقع في خانة العادي العابر. عادي وعابر، لكنه يخضع لآلية تضخيم وتفخيم تعتمد الإشاعة السارية بين أناس يعرفون الإسم الذائع كعنوان، المنتشر هنا وهناك ضمن وسائل الإعلام، لكنهم يجهلون منجزاته من خلال قراءته قراءة متعمقة– قراءة واعية لشروط الكتابة وتذوقها ما يتيح المجال للتقييم الصائب.

أجيز لنفسي أن أسحبَ على جمال أبو حمدان ما نصفه بـ"نسيج لوحده."

 

نسيجٌ لم يكتفِ بخصوصية كتابته كأسلوب بناء، ولغة، ورؤية/ رؤيا داومَ عليها منذ بدايته الأولى، وواصلَ ترسيخها والتأكيد على فرادتها طوال مسيرته الإبداعية، حين نشر باكورته القصصية "أحزان كثيرة وثلاثة غزلان" عام 1969. لم يكتفِ بهذه الخصوصية، إذ أنه رَبَطَها بجبلته الشخصية التي تميّزت بالافتراق الواضح عن سِواه في كيفية إقامته لعلاقته مع ما يُسمّى "الوَسَط الثقافي". علاقة قِوامها التقرُّب من الإبداع أولاً ليبني، بعدها وعليها، أواصرَ علاقته بصاحب الإبداع. علاقة هادئة وسلسة تنسجم مع طبيعته الهادئة والسلسة، حيث أبعدته تماماً عن "المعارك" وصَخَبها واصطفافاتها والانقسامات الضاربة لـ"الجسم" الثقافي بسببها؛ وشعاره المرفوع بجدية تبدو مازحة في ظاهرها: "شو خَصْني!"

 

إنها عبارة كثيراً ما كان يرددها كلّما جاء الحديث عن تلك "المعارك" فيبدو، لمن لا يعرفه، وكأنه يتهرّب من مواجهة الأحداث بموقف معلَن. غير أنّ جمال أبو حمدان، ومنذ إطلالته على الحياة العامة وانخراطه الشخصي في أسئلتها الواضحة، كان أنْ اتخذ موقفاً، وأجابَ بوضوح ومباشرة، حين باتَ ناطقاً إعلامياً لفصيلٍ نِضاليّ فلسطيني نهاية الستينيات في عمّان.

 

كان هذا في زمن الفرق الواضح بين الأشياء المعلنة عن جوهرها الحقيقي، دون الالتفافات والالتواءات عليها، والمؤدية إلى خيانتها في النهاية.

كُنْ واضحاً صافياً فأتمكن من التعامل معك. أما إذا أدخلتني في لعبة التماهيات والتشاطر؛ عندها سأقول لك: "شو خَصْني؟"

هكذا كان لسان حال جمال أبو حمدان.

 

وكذلك، كان ضمير جمال أبو حمدان يعرف الفارق بين التحاذق المتصف بـ"الصوت العالي" المُسيَّس والمُتاجر من جهة، وتحذلق الهزال الكِتابي والفقر الإبداعي لأصحاب ذاك الصوت من جهة أخرى. ضمير ليس قابلاً لأن ينخدع، وذائقة لا تسمح بمجاملة القبيح.

 

أنحن بصدد التطرق إلى إحدى الصِفات التي طفق مجتمعنا يتعرّى بالتخلي عنها؛ ألْا وهي النزاهة؟

نعم: كان جمال أبو حمدان نزيهاً. نزيهاً مع نفسه، ونزيهاً حيال سِواه. ولم يكن لينجح في اشتقاق "نسخته" الخاصّة في كُلٍّ من الكتابة الإبداعية، والحضور الاجتماعي الهادئ لولا هذه النزاهة. ولعلَّ سِمَةً كهذه، (إضافةً إلى ما راكمه من مجموعات قصصية، وروايات، ومسرحيات، وأعمال درامية، ومقالات، ونصوص، وكتابة للأطفال)، تكفي لأن تجعله يملأ الدنيا ويشغل الناس لوقت طويل طويل.

 

يملأ دنيا الإبداع بحصته المتعددة ذات الأبعاد العميقة، ويشغل الناس بشخصيته المحيرة:

حاضرةٌ بقوة رغم غيابه الاجتماعي/ الإعلامي، قبل سنوات من غيابه الأخير، قبل أيام.

هادئ وسلس عاش بيننا.

هادئ وسلس غاب عنا، غير أنه ترك لنا إرثاً يستحق منا قراءات في مستواه وسويته.

ترك لنا نسخته الخاصة في كيف يكون الحضور ساطعاً، بعيداً عن الصَخَب الخاوي، طالعاً من الهدوء الواثق.

 

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.

 

 

أضف تعليقك