نحو موضوعية المطالب وترتيب الأولويات
يبدو اننا نعيش في حالة من (الحيرة) الوطنية, سواء في اوساط الحكم او اوساط الاحزاب وقوى الحراك الشعبي. بعد ان تعددت وتناقضت المطالب من عملية الاصلاح السياسي الشامل. فأدى ذلك الى (لخبطة) الأولويات على اجندة التغيير المنشود.
في البداية, كانت مطالب المعارضة والحراك الشعبي متواضعة لكنها واضحة ومحددة, وهو ما جعلها جاذبة لشرائح واسعة من الشباب الذين اظهروا وعيا متقدما ورغبة بدور ونشاط سياسي اكبر. الشعارات كانت ترفع (1) حل مجلس النواب والحكومة (2) اجراء انتخابات نيابية حرة ونزيهة (3) محاربة الفساد.
كادت هذه المطالب, وبفعل اللحظات التاريخية المتأزمة, التي مرت بها البلاد خاصة في شهري آذار وايار, ان تفرض نفسها على اجندة الاصلاح واولوياته. فالملك أمر بحوار وطني سريع لاعداد قانونين, للانتخابات والاحزاب, والحكومة تحركت بتشكيل لجنة حوار تقودها هي, وليس غيرها, لانها المكلفة دستوريا بوضع مثل هذه المشاريع. لكن الاعلان عن هذه الخطوات الجادة من الملك والحكومة, لم تهدىء الامور, وانما شجعت على طرح مطالب جديدة عمقت من الجدل العام, واحدثت شروخاً في الحراك الجماهيري والقت بالغموض على مستقبل الاصلاح.
المعارضة وليست الحكومة من أصر على شروط التعديلات الدستورية كمقدمة للقبول بمخرجات لجنة الحوار, وهي لم تدرك انها بهذا الشرط ستقلب اولويات الاصلاح رأسا على عقب واول اثار "اقرار التعديلات" هو التأخير الحتمي لموعد الانتخابات النيابية المقبلة, وبالتالي دفع استحقاقات الاصلاح الاخرى الى الخلف مثل تشكيل حكومة نيابية, وذلك لمدة عام آخر على الأقل. ذلك ان مسيرة الاصلاح غدت امام ممر اجباري وهو ضرورة قيام مجلس النواب باقرار التعديلات وقانوني الانتخاب والاحزاب.
في دول العالم كله, يتوحد سيناريو (اصلاح النظام) الذي يبدأ بالانتخابات النيابية العامة, وفق قانون تجمع عليه القوى السياسية. مع وضع قانون للاحزاب ينظم حرية تنافس البرامج والقوائم. وعند التئام المجلس الجديد, يبدأ ممثلو الشعب المنتخبون تحت رايات الاصلاح وشعارات وسلطة تفويض الناخبين الشروع في الخطوات الاخرى, من تعديل الدستور الى وضع قانونين دائمين للاحزاب والانتخابات.
لقد تم وضع العربة قبل الحصان في مسيرة الاصلاح, لهذا لم تعد المطالب والشعارات موضوعية, وكل خطوة اصلاحية اصبحت عبئاً على عملية الاصلاح وعلى صاحب القرار وعلى قوى الشارع المختلفة. لقد نجم ذلك كله عن (خربطة) جدول الاولويات مع ارتباك في المفاهيم.
دعونا نتخيل لو ان الدولة, بحكومتها وبرلمانها, ستستجيب لجميع المطالب التي تتحدث عنها المعارضة وتيارات وشخصيات اخرى من تعديلات دستورية شاملة, وقانون انتخاب مثالي, ومحاكمات للفاسدين, وانقلاب كامل على السياسات الاقتصادية والخارجية. وهذه كلها شروط واعتراضات تطرح في مجمل الحوار العام حول "القوانين والتعديلات". اذا تخيلنا ان الدولة ستوافق مع حكومتها وبرلمانها على اقراره وتنفيذه. بذلك سنكون قد وصلنا الى نهاية خط الاصلاح. وعندئذ لماذا ستطالب المعارضة بحل البرلمان والحكومة واجراء انتخابات جديدة! فمجلس النواب الحالي يصبح تاريخيا والحكومة تجلس على ذروة سنام الاصلاح!! "وكفى الله المؤمنين شر القتال".
اخشى ان كل ما يجري من تصعيد في المطالب ورفض لما تم في لجنتي الحوار والتعديلات سيزيد تشوش الرؤية على الجميع, الدولة والاغلبية الشعبية. وان يتحول الامر, من نشاط سياسي حول الاصلاح الى نشاط حول مكاسب حزبية وفئوية وحتى جهوية ضيقة.
ليس المطلوب اعادة عقارب الساعة الى الوراء, ومراجعة اجندة الاصلاح مرة اخرى, فذلك مضيعة للوقت والجهد, ودفع للناس للغوص من جديد في جدل المشروعية والصحيح والخطأ ومن يمثل من. من الموضوعية ان تتم انطلاق عملية الاصلاح على قاعدة "قانوني" لجنة الحوار الوطني والتعديلات الدستورية. وان تترك مسألة استكمال بناء الديمقراطية بجميع جوانبها الى البرلمان المقبل, الذي له الحق بمراجعة القوانين وحتى التعديلات.
من حق كل فئة ان تسعى الى حلم الديمقراطية على صورتها ووفق قناعاتها وشعاراتها. لكن هذا وطن, وشعبه بالملايين. ومهمة الاصلاحيين ان يصنعوا الفرص لقوى التغيير وان يضعوا الأطر للتعددية والقوانين لحق القوانين لحق الاختلاف وشرعية الاغلبية. اما فرض الشروط تحت وقع الشعارات والخطابات فهي شيء يناقض الديمقراطية تماماً.
العرب اليوم