مونديال الفقراء
أعترف مسبقا أنني في "ميمعة" المونديال الجارية اعتبر نفسي من "كبار مشجعي" الشاشة السوداء، ولربما في هذا موقف انتقامي من ماضي الطفولة، إذ لم أكن من بين الفالحين في "فريق" الحارة التي ولدت فيها، وكنت في الفريق لغرض استكمال العدد، ففي تلك الأيام كنت أخفي غضبي حينما كان أولاد حارتنا يقررون لعب "الفوتبول"، وليس أية لعبة أخرى.
فكرة القدم، في تلك الأيام كما هي اليوم، ما تزال الأكثر انتشارا إلى درجة "الاحتكار"، في الدول الفقيرة وفي الأحياء الفقيرة والشعبية، لأن ممارساتها لا تحتاج صرف المال، فيكفي أن تقفز إلى ساحة مفتوحة في تلك الحارة أو غيرها، لتقسمها كيفما تشاء وتمارس اللعبة، وتحرك عضلاتك شوي.
من هذا المشهد الشعبي البسيط، الفقير والمتواضع، خرج كبار نجوم كرة القدم في العالم، ولربما أن أميركا الجنوبية هي النموذج الأبرز، ولكن هذا يسري على دول العالم الأخرى، وفي مرحلة ما كان تسمى كرة القدم "لعبة الفقراء"، إلى أن وصلتها يد الاستثمار الجشع، وباتت من أكثر قطاعات الرياضة استثمارا في العالم، تتحرك فيها عشرات بلايين الدولارات سنويا، يلعب فيها الفقراء، ولكن مشاهدتها والتمتع بها بات لميسوري الحال، ووفق القدرات المالية.
ورغم أنني من مشجعي "الشاشة السوداء"، إلا أن الأجواء تفرض عليك أن تشاركها من مباراة إلى أخرى، واعترف أيضا أن ما استفزني الآن لأكتب هذا المقال، كان بث مباراة الجزائر أمام انجلترا مساء يوم الجمعة الأخير، فقد أجريت "جولة" سريعة بين القنوات، لربما أجد شاشة عربية تبث بالتعليق العربي، يساعدك على الاندماج في الأجواء، فالمعلق الإسرائيلي "ذبح حاله" وهو يشرح حماسته للفريق الانجليزي، ونغمة تعليقه خلال المباراة كانت تبكي المملكة العظمى التي لم تتغلب على العرب.
وتوقفت قبل بدء المباراة عند قناة التلفزيون الأردني، فقد أوحت لي الأجواء الاستباقية أن القناة ستبث المباراة، ولكنني صُدمت من عدم بثها، فالبرنامج اقتصر على مرافقة الأجواء وليس المباراة مباشرة.
تركت كل شيء، وذهبت إلى الحاسوب لأتصفح صحيفتي "الغد"، لأطلع أكثر على واقع حال البث، وتوقفت "أرشيفيا" عند مقالة الأستاذ العزيز جميل النمري: "كأس العالم: لماذا فشلت الصفقة؟!"، يوم الجمعة 11 حزيران الحالي.
والتفاصيل هناك عن محاولة التلفزيون الأردني لشراء حق بث المباريات، ليس فقط أنها مذهلة بل هي مثيرة للغضب الشديد، فإلى أي مستوى يتجه العالم نحو عقلية الاستثمار الاستغلالية الجشعة، فكما يبدو لم نصل بعد إلى حضيض هذه التوجهات، لأن "قانون الجشع" لا حدود له.
وظاهرة احتكار البث بهذا الشكل التجاري المقيت، بدأ قبل دورتي مونديال، ولكنها تستفحل من دورة إلى أخرى، فقد كانت دورات المونديال مفتوحة للعالم بأسره، ومن المؤكد أن ريع الإعلانات التجارية والمداخيل الأخرى، لم تترك أية جهة بخسارة مالية، وإن وُجدت بقدر ما، فإن مردود تمتع الإنسان العادي بمتابعتها أفضل من أي ربح.
وما وجدناه الآن، أن الاحتكار لم يعد على مستوى دول، بل على مستوى مناطق في العالم، ولا أعتقد أن ما حصل مثلا، على مستوى الشرق الأوسط، واحتكار قناة الجزيرة للبث بالطريقة المشفرّة، نجده في القارة الأوروبية، فحيث المال أكثر، كانت إمكانات شراء البث أكبر.
بطبيعة الحال فإن المشكلة ليس في قناة الجزيرة، التي انخرطت هي الأخرى في سوق المنافسة التجارية لتحقيق الأرباح، بل المشكلة في اتحاد كرة القدم العالمي، وهذا ما يستوجب الدول أن تسارع لوقف هذه الظاهرة، التي إن ترسخت أكثر في هذا المجال الرياضي، فستنطلق أيضا إلى مجالات أخرى، مثل دورة الألعاب الأولمبية وغيرها.
إن المنطق الإنساني يقول إن هذه الدورات الرياضية العالمية ظهرت لتكون شكلا من أشكال ترابط المجتمع البشري في العالم، لا أن تتحول إلى مشاريع استثمارية شرسة إلى هذا الحد، ويُحرم منها السواد الأعظم من البشرية، لأسباب مالية لا غير.
أمام مشهد كهذا، وعلى الرغم من أنني أصلا نصير "الشاشة السوداء"، بسبب ترسبات الماضي في الحارة، إلا أنني اعتبر نفسي منذ الآن نصير الشاشة السوداء، تضامنا مع المحرومين من المشاهدة، لأنهم احتاجوا فلوس التشفير لسد قوت أبنائهم.
الغد