موسم نفير إلى التلفزيون

موسم نفير إلى التلفزيون
الرابط المختصر

كأَنَّ شيئاً من الضجر أَصابَنا من البحلقة قدّام التلفزيون، وكنّا منذ صار العالم العربيُّ يعرفُ هذه الروح المنتفضةَ في جسدِه قد استسلمنا له. كانت الواقعةُ التونسيةُ جذّابةً، وفي أَثنائِها، كانت ملاحقَتنا، ذات ليلةٍ، مسارَ طائرةِ زين العابدين بن علي الفارّ، على الهواءِ مباشرةً، مشحونةً بالانفعالِ والدهشة، ثمَّ استنفرت مساراتُ جموعِ المصريين إِلى ميدان التحرير أَعصابَنا ومشاعرَنا، حتى إِذا أَطلَّ عمرو سليمان، بتقطيبتِه إِياها، وأَبهجنا بيانه المقتضب، كان الدويُّ الذي أَشعلَ زغرودةَ نوارة نجم وزغاريدَ غزيرةً في غير بلد عربي. لم يكن ثمَّةَ ما في وسعِ الواحدِ منا، في تلك الغضون، غير أَنْ يتسَمَّر قدام الشاشات، ويتخيَّل سيناريوهاتٍ وتوقعاتٍ تشتبكُ فيها الرغباتُ والتمنياتُ مع الشواهد والحوادث.

مع الذي استجدَّ لاحقاً في اليمن وليبيا، ثم في سورية، لم يعد ميسوراً التَّخفُّف من الجلوسِ إِلى التلفزيون والاستماع إِلى كلامٍ فيه يسترسلُ، أَحياناً، كيفما اتفق. كأَنَّ التلفزيون وحدَه صار يوجِّهُ انفعالاتِ المواطنِ العربيِّ ومشاعرِه، يرفعُ توقعاتِه ويُخَفِّضُها، يُفرحُه ويُغضِبه، له نفوذُه الفادحُ على الوجدانِ العربيِّ الموحَّدةِ أَشواقُه نحو حالٍ أفضل. تمكَّن من أَنْ تتجاوزَ نشراتُه وبرامجه الإِخبارية وظيفتًها الإعلامية، فصارت مصادرَ شحنٍ لقناعاتٍ ومواقفَ سياسيةٍ، وذلك في زمنِ فضائياتٍ ذاتِ جاذبيّةٍ باتَ مستحيلاً استغناءُ المواطنِ العربي عنها، حيث لا خيارَ غيرُ النزوح إلى الشاشاتِ حين الوقائع الكبرى، ولا مجازفةَ في القولِ إِنَّ فضائياتٍ عربيةً معينةً صارت لها وظائفُ المجتمع المدنيِّ والقوى والأَحزابِ والتمثيلاتِ السياسية.

شيءٌ من الرتابةِ وبعضُ الضجر أَصابا الإيقاعَ العربيَّ الواسع الذي أَحدثته سخونةُ ما جرى في مصر وتونس، ثم استجدَّ في ليبيا واليمن، وفي سورية لاحقاً، وإِنْ بقي منسوبُ الانجذابِ نحو التلفزيون عالياً، ربما لأَنَّ النخبَ ليست وحدَها التي تحتكرُ الكلامَ في التقاريرِ الإخباريةِ والاتصالاتِ الهاتفية، بل الجميعُ يتكلمون كما يريدون ومن أَيِّ زنقةٍ كانوا فيها. ونُخمِّنُ أَنَّ التظاهراتِ الواسعةَ في سورية حدَّت من ذينك الضجر والرتابة، سيّما وقد أَشهرَ المشاركون فيها شعارَ إِسقاط النظام بشجاعةٍ مُعجزة، فووجهوا بصنوفٍ شنيعةٍ من التنكيل والتقتيل والتعذيب، ساهم التلفزيون بتعريفِنا ببعضِها، في صور اختلسَ التقاطَها فتيةٌ وشبانٌ جسورون، وصِرنا على دأْبنا في متابعتِها مرتجَّةً ومشوَّشة، من تلبيسة وتلكلخ وجسر الشغور والرستن والبيضا والمعضمية، وغيرها من بلداتٍ سوريةٍ، من بؤسها أَنَّها ما ذاعت في غيرِ موسمِ عنف السلطةِ الراهنِ ضد ناسِها.

كأَنَّ كثيراً من شحناتِ الانفعال لدينا تم تصريفُها إِبان الواقعةِ المصريةِ الباهرة، كما أَنَّ تناقضَ المشاعر وارتباكَها، بل واختلالَ القناعاتِ وتشوّشَها أَيضاً، بشأْن الحادثِ في ليبيا منذ شهور، جعل استقبالَه على شاشاتِ الفضائياتِ ضعيفَ الوتيرة، كأَنَّ إِزاحةَ الرتابةَ فيه تنتظر حادثةً، دراميةً ومفاجئةً ربما. ومع ما في اعتصامِ مئات آلاف اليمنيين في ساحة التغيير في صنعاء من إِدهاشٍ واستثارةٍ للإعجاب، فإِنَّ متابعتنا مسار وقائع الثورة اليمنية المباركة لم تعد بالمنسوبِ نفسِه، وإِنْ زادَ وتيرتَه مكوثُ علي عبد الله صالح في مستشفىً سعوديٍّ بعد حادثةٍ ملتبسةِ التفاصيل.

هو موسمُ نفيرٍ إِلى التلفزيون، إِذن، حافلٌ بالإِثارةِ والعواطف، وبالخوفِ على الليبيين والسوريين وبلديْهما، وبنصرةِ تونس ومصر واليمن، وكلِّ مطرحٍ عربيٍّ نفضَ ناسُه أَيَّ خوفٍ عنه، وجهروا بطلبِهم الحريةَ والكرامة، ثائرين على كلِّ استبدادٍ وفساد.

الدستور

أضف تعليقك