موتى يتحدثون لغة الجنة

موتى يتحدثون لغة الجنة
الرابط المختصر

 

يصرّ أهل اللغة العربية على وجود "حرب" تُخاض ضد لغتهم سواء من الخارج أو بسبب تعاظم اللهجات المحكية، لكنهم يؤمنون جميعاً بـ"صمودها" كونها لغة القرآن ولغة أهل الجنة، بينما الحقيقة الساطعة أن التواصل بالعربية في تراجعٍ، في معظم البلدان الناطقة بها، وأن الاستثمار بها –وهو الأهم- لا يعدو أكثر من بروتوكول لتلميع صورة النخبة الحاكمة!

 

ملاحظة أساسية لا تغيب لدى التنقيب عن أزمة اللغة العربية، وتتمثل بالعجز في تحديد المشكلة التي نعاني منها، والغاية والأهداف المرجوة من النهوض بـ"العربية"، بدليل أن الدراسات المنشورة فقيرة وتجتر بعضها، والأهم منذ لك كلّه أنها أسيرة سلطتين؛ سلطة الغيب التي لا تزال تحفظ لغتنا رغم كل مظاهر الانحطاط والتخلف، وسلطة القبيلة التي لا ترى لغتها سوى أنها "فولكلور" ضمن هوية جريحة ومكابرة.

 

لا يملّ أدباء وأكاديميون، بمناسبة الاحتفال بيوم اللغة العربية كل عامٍ، الاعتراض على استخدام اللهجات العاميّة عبر الفضائيات والانترنت، متناسين أن الإعلام يشوّه "العامية" ويبتذلها، وقد ضاعت آلاف الأغاني والحكايات لأن الموروث الشعبي لم يُوًّثق بلهجاته المحكية كذلك، وعلينا الكفّ عن افتراض "التناقض" بين الفصيحة و"المحكيات"، رغم أنهما وثيقتا الصلة ويشكّلان معاً ثقافة ومجتمعاً واحداً.

 

وعلينا الاعتراف بأن خسارتنا الأكيدة ليست بسبب انتشار تعليم اللغات الأجنبية، إنما لإخفاقنا التام في تنشئة أجيال تتقن لغتين؛ العربية ولغة آجنبية في آن، فعشرات ملايين العرب تستخدم الإنجليزية والفرنسية للتواصل فقط، وتعوزها القدرة على البحث والكتابة والابتكار بهما، وبذلك لم نستفد من اللغة الثانية والثالثة لأننا خسرنا لغتنا الأم ابتداءً.

 

ضعفنا باللغات يؤسس- بالعموم- طبقتين اجتماعيتين؛ الأولى تشعر بالتعالي لأنها تتحدث بلغة أوروبية واحدة على الأقل وتتخرج من مدارس خاصة بعينها، والثانية تعيش الاضطهاد لأنها لم تتلق تعليماً جيداً باللغة والحساب وجميع الحقول الدراسية، وتظن أن مؤامرة تحاك ضد "عربيتها"، غير أن الطبقتين لا تمتلكان اللغة، حقيقةً، لأنهما عاجزتان عن الإنتاج المعرفي بكل اللغات؛ عربية وافرنجية.

 

لنكدّر احتفالنا هذا العام بـ"عربيتنا"، ونُذكّر أن "الانجليزية" تجتاح العالم بأسره، لكن استثمار الأمم بلغاتها في ازدياد، ما تؤكده نسب القراءة والتأليف والبحث العلمي والترجمة والصناعات الثقافية في إحصائيات تضع العرب في ذيلها مجاورين بضع دول إفريقية (الدول العربية تحتل المراتب ما بعد 120 في اعتماد اللغة العربية قاعدةً للتنمية البشرية)، ولا يكمن الفشل في شح الإنتاج بلغتنا؛ كماً ونوعاً، بل في العجز عن وضع منهاج دراسي واحد، في أي دولة عربية، يكون قادراً على رفع مستواها لدى الطلبة.

 

يُقال إن العربية مشتقة من "الإعراب"؛ أي الإفصاح والإبانة، غير أن أبناءها يديمون الالتباس والتضليل حين يرفضون التخلي عن عقلٍ أسطوري يعتقد بـ"قداسة" لغته أو تفوقها القومي، والنزول إلى الواقع حيث علينا أولاً وأخيراً تحديد ماهية علاقتنا باللغة، التي ترتبط أساساً بالتفكير، الذي يعجز أصحابه عن التغيير إذا كان مستلباً خارج وجوده

 

نحن نعيش خارج لغتنا! فلماذا كل هذا الصخب حيال موتى يأبى تفكيرهم التوجه نحو الحياة والاشتباك معها؟

 

 

محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.

أضف تعليقك