موتى بلا قبور
انتهيا للتو من الشوط السابع من لعبة الشطرنج، التي عرف كلٌ منهما الآخر حول رقعتها، وعاشا على طرفيها وبين قطعها منذ اليوم السادس الذي يشكّل نقطة البداية.
اختار أن يلعب بالقطع السوداء لتبدأ هي تحريك القطع فَيَتبَعُها. إنّه لا يعرف أصلاً لهذا السلوك التلقائي الذي يمنحه شعوراً بأنه يستمدّ منها حياته ويمنحها إياها.
كما في كلِّ مرّة تكون القطع السوداء من نصيبه، حرّك "جندي ملكه" ” خطوتان إلى الأمام تماماً مثل ما فعلت هي، نقلت "وزيرها" ليقف أمام "جندي فيلها" الرابض إلى يمين "ملكها"، لم يحرّك "جندي فيله الأيسر" خطوةً للأمام ليواجه "وزيرها" قبل أن ينقضّ على "جندي فيله" خانقاً "ملكه".
من دون تفكير، أمسك بطرفي إبهام وسبابة يده اليسرى برأس "جندي ملكه" الذي نقلهُ في بداية اللعبة متأسّياً بها، عائداً به خطوةً إلى الوراء، ابتسمت، نظرت في عينيه... أمسك "وزيرها" ووضعه مكان "جندي فيله" وهمس منتشياً: "كِشّ مات".
قبّلها وهنّأها بالفوز، قبّلته وواسته للخسارة، تعانقا فتلاشيا.
همّا بإعادة ترتيب القطع في مكانها ليمارسان شوطاً جديداً يتبادلان فيه الألوان، حيث يبدأ هو بالأبيض فتتبعه هي بالأسود ليفوز فتهنؤه ويواسيها فيتبادلان القُبَل ويتعانقان فيتلاشيان ثم يبدأان من جديد في دورة لعبة الحياة الأبدية.
لم يعرفا متى، حيث لم يكن زمناً، تحجّرَت قطع الشطرنج فلم يقويا على انتزاعها من مكانها؛ لينسدل الستار و"وزيره" خانقاً "ملكها".
مضت قرون وهي تحاول انتزاع القطع لكن من دون جدوى. مدّت يداها باحثةً عن راحتيه... لكنّها لم تجدهما... كانت آخر مرةٍ ترفع فيها رأسها إلى الأعلى؛ لتراهُ وقد رفع يداه إلى السماء مبايعاً على استرقاقها.
لم تصدق أنّهُ هو، فحاولت أن تبحث عنه تحت الأرض، فإذا بقدميه تتدليان فوق رأسها لتبقى جاثمةً بينهما إلى حيث لا زمن... نظر إليها فاستعذب سجودها بين قَدَميه الملوَثتين بوصمة العار مما لم يرد فعله ولم يسعَ إليه.
سئمَ وحدته في "عليائه" الوهمية... نظر إلى الخلف... حيث ما زال عناقهما الأخير محفوراً على رقعة الشطرنج التي ولدا فوقها وعاشا بين قطعها... لم يرد هذا ولم يختره، هكذا يظنُّ في قرارة نفسه، لكنّه لا يستطيع التخلّص من عار استعذابه لفوقيته الذي اكتسبها في صفقةٍ أُبرِمَت بعقد إذعان.
حاولت أن تفكّر... فنظر إلى عقوبة التفكير في العقد... فركل رأسها بقدمه المقدّسة، تدلّت فوقها أوراق ليست مكتوبةً بخطّ يده الذي تعرفه تمام المعرفة، فلطالما كتبَ لها عبارات العشق وقصائد الجوى ونثر الهوى... أَمَرَها أن لا تكون فلم تكن.
استيقظت فجأةً على ضجيج مهرجان إحدى ليالي الاحتفالات التي لا تنقطع بذكرى الأجداد الذين لم يرهم أحد ولا يعرفهم الأحفاد إلا من خلال القصص والأساطير. حرّك فيها الغوغاء بصراخهم وبكائهم شيءً كان قد مات فيها، (إنسانيتها)، رفعت رأسها الجاثم بين قدميه، اختلست النظر إلى وجهه، وجدته شاحباً ناظراً إلى الأفق الذي خَلَّفاه وراءهما. نهضت، وقفت، حدقت في عينيه الحجريتين، انبجس منهما دمعتان أذابتا لباسه الحجري فتلاشى كسحابة صيف.
ضمّته إلى صدرها، تعاتبت شفاههما فالتأمت الشقوق التي حفرها تباعدهما على حوافّهما. ذهبَ ظمأُ جوفهما وابتلت منهما العروق... اخضرَّ قلباهما بعد طول يباس، ومَضيا إلى حيث يجب أن يكونا، مخلّفانِ وراءهما أشباحاً صنعها أشباحٌ لا يُعرَفُ عنهم إلا أسمائهم وأفعالهم السادية المشينة.
ونحن على مشارف اليوم العالمي للمرأة الذي يَزُفُّ التحرّر لنساء في أماكن قليلة وينعى عبودية أخريات في أماكن أكثر، على كلّ من تتوق لتحطيم آلهة الخرافة والتخاريف التي حبستها في كَفَن رجال يقيسون رجولتهم بفحولتهم وانتفاخ جيوبهم وانفرادهم بإيقاع الطلاق؛ أن تحفظ وتُحفِّظ: حبيبيها وزوجها وأبنائها وبناتها وتلاميذها وتلميذاتها وزملائها وزميلاتها وصديقاتها وأصدقائها وأقاربها... مقولة الخالد ابن خلدون: "اتباع التقاليد لا يعني أنّ الأموات أحياء، بل أنّ الأحياء هم الأموات".
يلخّص الراحل صلاح جاهين أسر الإنسان نفسه لخرافته التي اخترعها أو وَرِثها، في إحدى رباعياته الخالدة التي تقول: "وَلَدي نَصحتَك لَمّا صوتي إتنَبَح، ما تِخَفشِ من جِنّي ولا من شَبَح، وإن هَبّ فيك عَفريت قَتيل إسألُه، مَدَفِعشِ ليه عن نَفسُه يوم مَ إندَبَح، عجبي!".
من خُلِقَ للموت فليُكَفِّن نفسه في الصحائف الصفراء لمن مات وأمَات، ومن وُجِدَ للحياة فليحياها مردّدأً: "من فات مات والحَيُّ ما هو آت".
ضاقت أوطاننا بموتاها تحت الأرض، فلسنا بحاجة إلى أمثال من كتب نعيهم جون بول سارتر في خالدته: "موتى بلا قبور".
مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.