مواطنون تحت قصف المسؤولين
إحالة العشرات من موظفي أمانة عمان إلى "الاستيداع " قرارٌ يتجاوز أيَّ بعد إنساني واجتماعي، ويقفز صاحبه من دون أن يرف له جفن، ومن دون أن يسأل نفسه: وماذا سيحل بأسر هؤلاء ومصير أبنائهم بعد انخفاض رواتبهم إلى النصف، وفقدان امتيازاتهم البسيطة أصلاً؟
قرار الاستيداع هو جزء من فلسفة جديدة بدأت تتردد في أروقة القرار، ونسمعها من مسؤولين من أعلى المستويات، وهي ذات الفلسفة التي دفعت بوزارة الزراعة (سابقاً) إلى طرد عشرات موظفي المياومة إلى الشارع، حتى لا يُرهقوا الموازنة!
جوهر هذه الفلسفة "العبقرية " الجديدة يكمن في أنّ جزءاً كبيراً من التعيينات في الدوائر الخدماتية والرسمية، وتلك التي تدور في فلك الدولة، تمّ على قاعدة "الترضيات " الحكومية للنواب والمجتمع المحلي، وطلباً للشعبية، وأنّ ذلك أدّى إلى ترهُّلٍ في هذه المؤسسات وازدحامٍ يُعيق الحركة.
حسناً، لكن لا تجيب هذه الفلسفة "البرجوازية " عن السؤال الأهم: لماذا يلجأ مثل هؤلاء إلى وظائف دنيا، لا تطعمهم من جوع، ولا تؤمّنهم من خوف على أولادهم وأمنهم الاقتصادي، إذا كانت هنالك وظائف أكرم لهم، أو فرص عمل أخرى، تؤمّن لهم ما هو أفضل من هذه "المبالغ التافهة "، التي يتقاضونها من مؤسسات الدولة، هذا أولاً.
أمّا ثانياً، فثمة "شكٌّ " قويٌ بوجود "ازدحام " في تلك المؤسسات كافّة، بل هنالك مؤسسات تحتاج فعلاً إلى موظفين وعمال، وهنالك نقص في بعض مؤسسات الدولة والعامة، ما يجعل الحل في إجراء تنقّلات لهؤلاء الموظفين وتحسين شروط الإدارة وتطويرها، وتوظيف الطاقات والإمكانيات في الاتجاه الصحيح، وإجراء دورات تأهيلية، قبل التفكير بطرد الناس وقطع أرزاقهم.
في حوار مع أحد كبار المسؤولين حول قضية عمّال المياومة (في وزارة الزراعة) أحال سبب تعنت الحكومة الحالية (سابقاً) في التعامل مع هذه القضية إلى أنّهم تعيّنوا من خارج بوابة ديوان الخدمة المدنية، وكأنّ المسؤولين الكبار، أصحاب الامتيازات والرواتب المتضخّمة، الذين تكتظ بهم المؤسسات الرسمية والعامة، أتوا من بوابة الديوان، وضمن شروط التعيينات واللجان المتخصصة! (من يستطيع فتح هذا الملف!)
بأيّ معيار يمكن أن تُثقِل رواتب هؤلاء الموظفين موازنة الأمانة، التي تَدفعُ بكرم شديد للمديرين ولأعضاء مجالس الإدارة، رواتب يكفي أحدها لهؤلاء المحالين على الاستيداع كافة!
يستقوي المسؤولون وأبناء الطبقة العليا على الموظفين الصغار وعُمّال المياومة، بذرائع واهية، لا يمكن أن تقنع الرأي العام، الذي يدرك تماماً أنّ الترشيد الحقيقي يبدأ من القمة وليس من القاع، والاستقواء المطلوب على المتنفذين وليس المستضعفين.
أمّا إذا أصرّت الحكومة والمسؤولون على هذه السياسات، فإنّ النتيجة هي تعزيز الشرخ الطبقي المتزايد، وجرّ القاعدة الاجتماعية الواسعة إلى صدام مع الحكومة والدولة، لأنّ المفصولين والمحرومين والفقراء والضعفاء لن يجدوا خياراً آخر بعد أن يُحرموا من لقمة الخبز، ومن أبسط مقوّمات الأمن اليومي.
المسؤولون "الكبار " لا يرون "الطبقات الارتوازية "، إلاّ بالمجهر، ولا أظن أنّ أحداً من المسؤولين الجدد، الذين هبطوا علينا بالبراشوتات، يدرك ما معنى الجوع والظلم والدَّين، وحسرة الغلابى وهم ينظرون لعيون أبنائهم صبيحة كل يوم، وربما يرون بأشخاص يدافعون عن قوت يومهم، مثل محمد السنيد، خصماً يجب تدميره، حتى يكون عبرةً لمن يعتبر!
الفلسفة الجديدة، التي يبشّرنا بها المسؤولون، تقتضي توفير شروط مغايرة تماماً للشروط الحالية، فلا بد من وجود فرص عمل أولاً في القطاع الخاص، ومساواة أمام القانون، ومحاربة للفساد والثراء الفاحش من أموال الناس، لمواجهة الشعور بالظلم لدى الطبقة العامة، وهو شعور خطر ومقلق جداً، ومؤذن بــ "خراب العمران "، كما حذّر ابن خلدون، وهو خراب ناتجٌ أيضاً عن الجمع بين المسؤولية والتجارة على حساب الأمن والاستقرار.