من التقوى إلى سوق رمضان

من التقوى إلى سوق رمضان

 

يشير القرآن الكريم إلى غايةٍ مهمةٍ وراء الأمر الموجه للمؤمنين بالصوم، وتبدو واضحة في الآية 138 من سورة البقرة التي تقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، إذ تبدو الغاية هي "التقوى"، وهي من الجذر "وقي"، وقد جاء في لسان العرب أن "وقاه الله وقياً ووقاية وواقية: صانه، وقيت الشيء أقيه إذا صنته وسترته عن الأذى"، وأما مفهومها اصطلاحياً، ففسره الراغب الأصفهاني بقوله: "التقوى جعل النفس في وقاية مما يخاف، هذا تحقيقه، ثم يسمى الخوف تارة تقوى، والتقوى خوفاً حسب تسمية مقتضى الشيء بمقتضيه والمقتضي بمقتضاه، وصار التقوى في تعارف الشرع: حفظ النفس عما يؤثم، وذلك بترك المحظور"، وورد في الأحاديث أن الرسول عليه السلام قال: "الإسلام علانية، والإيمان في القلب، وأشار إلى صدره ثلاث مرات قائلاً: التقوى هاهنا، التقوى هاهنا"، ومن كل ذلك يبدو أن فعل الصوم مرتبط بهدف فردي تربوي، يسعى لتهذيب النفس بما هو روحي، بعيداً عن المظاهر المادية والاستهلاكية التي تشجع الغرائز وتضخمها.

 

الصيام مثل كل العبادات، حيث الهدف منها جعل الفرد قادراً على العيش في حياة مليئة بالمشاكل والصعوبات المفروضة عليه، والدين وجد من أجل تسكين آلام الإنسان الناتجة عن الأسئلة التي لا يستطيع العلم الإجابة عنها، حول المصير والنهايات وما بعد الموت، وكل هذه المسائل تحتاج إلى تأملات خاصة وقناعات فردية، تخص النفس ووجودها الذاتي، لكن يبدو أن فعل الصوم بما نراه اليوم قد خرج عن معناه الأصلي، الخاص بالفرد، إلى سلوك جماعي استهلاكي يخضع لقواعد السوق وقانون العرض والطلب.

 

دخل شهر رمضان بورصة التجارة على كل المستويات، من الأسواق الصغيرة ومطاعم الحمص والفلافل، إلى المطاعم الفارهة والمولات والضخمة، ثم الشركات الصغيرة والكبيرة، وليس انتهاء بالفضائيات وشركات الاتصالات، ففي اللحظة التي أكتب فيها هذا المقال وصلتني رسالة قصيرة تقول "امتلك سيارة في العشر الأواخر من رمضان"، وأقرأ خبراً في الجريدة، يقول: "استهلاك الغاز يزداد 40% في رمضان"، وعلى التلفزيون دعاية تعدنا بجنات عرضها السموات والأرض إن حضرنا درساً للداعية الشيخ الكبير. ومن هنا فإن رمضان لا يعدو كونه سوقاً لبورصة تجارية تخاطب الغرائز، وتمنحنا مساحة أوسع للتعبير عن شهواتنا التي لا تنتهي، وهو ما يناقض تماما ما وضع الصوم من أجله.

 

من أهم الأسباب التي أفقدت الفعاليات الدينية فلسفتها الأولى هو تحولها من حالة فردية إنسانية يمارسها الفرد بحرية ومتعة بعيداً عن السلوك الجمعي والتقليد الأعمى، ووهم الشكل الخالي من المضمون، إلى حالة استهلاكية شكلية لا قيمة لها. بمعنى أشمل لقد تحول التدين من حالة ممتزجة بسلوك الفرد والتعبير عن ضميره، إلى حالة القطيع الذي يمارس الفعل سيراً على خطى الصف الذي أمامه، ولذا تصبح الخطى سيراً أعمى بلا معنى، وربما هذا ما ينطبق على صلاة التراويح مثلاً، حيث أصبحت تعبيراً عن سلوك القطيع، وليست تعبيرا عن سلوك الفرد وقناعاته.

 

إن سلوك الناس في الشارع والسوق وكل مكان لا يعبر عن فكرة سامية كما هو متوقع من الصوم، ولا يوجد أي فوائد مرجوة من ممارسة الجوع الذي يغرق فيه الناس تحت سلطة القطيع وسلوكه، برياء مفتعل، ومظاهر خادعة، بل صار يشكل عبئاً على المستويات، الاقتصادية والاجتماعية والسلوكية كافةً. فما نشهده في شوارعنا من سلوكات هي تعبير عن نزق وعصبية بعيدة عن الرضى والقناعة والرحمة التي يدعي الناس أن الصوم يحققها، ومن هنا يبدو لنا أن الناس يمارسون الصوم مجبرين عليه ومسوقين بسلطة المجتمع، ويمارسونه بلا متعة ولا قناعة.

 

د. يوسف ربابعةكاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.

 

أضف تعليقك