من أين أتى هؤلاء الفقراء؟
من أين أتى هؤلاء الفقراء؟ كان هذا السؤال شغل الكتاب والمفكرين في القرن الثامن عشر، وصدرت مجموعة كبيرة من الكراريس والدراسات التي كانت تزداد كثافة على مر الأعوام، بعدما بدأت تتدفق أعداد هائلة من الناس من الريف إلى المدن، وتضيق بهم الأماكن، وهم لا يجدون مأوى ولا عملا، ولكن ربما كانت فضلات الشوارع أرحم من الريف البائس الذي عجز عن إطعامهم، فعندما بدأت الثورة الصناعية تحل على العالم من دون إعلان، قلبت كل شيء رأسا على عقب.
في دراسته للأزمة الاقتصادية في الثلاثينيات يراجع كارل بولانيي التاريخ الاقتصادي المصاحب للثورة الصناعية، ورغم أن الكتاب صدر عام 1944، فإنه يستعاد اليوم على نطاق واسع، ويجد فيه المفكرون والمؤرخون الاقتصاديون والاجتماعيون مختبرا لدراسة واستعادة حالات شبيهة ومماثلة لما يجري اليوم في الأزمة الاقتصادية العالمية والأزمة الكبرى التي شهدها العالم منذ سيادة المعلوماتية.
فقد ارتفعت أسعار الحبوب والمواد الغذائية أضعافا مضاعفة، وانخفضت أجور العمال، واختفت طبقة صغار المزارعين، وبدأت الآلة تحل محل اليد العاملة على نطاق واسع، وضاقت المساكن في المدن بأصحابها، وانتشر التشرد والإدمان والجريمة على نطاق واسع.
وتجنبت الحلول والاقتراحات والتفسيرات التحولات المصاحبة للثورة الصناعية، وقدمت اقتراحات وتصورات من قبيل تخفيض عدد الكلاب، وبعض فصائل الأغنام والخيل لأنها بحاجة إلى طعام كثير، ووجهت الدعوات إلى الفقراء (الفقراء فقط!) للتقليل من الطعام والتقشف، والتقليل أو حتى الاستغناء عن الشاي كوسيلة لتخفيف الفقر والحاجة.
والأكثر ذكاء أو جرأة من الدراسات اتجه إلى القوانين والتشريعات السائدة لتحميلها المسؤولية عن الفقر، لماذا غابت الإشارات التي تنبئ بالتحولات الوشيكة والحتمية المصاحبة للصناعة؟ يتساءل المفكر الاقتصادي بولانيي، بل ويؤكد أيضا أن كثيرا من المراقبين المعاصرين، أغفلوا التحولات المصاحبة للصناعة في فهم التاريخ الاقتصادي والاجتماعي الذي تشكل وغير العالم، وذلك رغم الإجماع والبداهة اليوم على الأثر الذي أحدثته الصناعة في حياة العالم وموارده وتشكلاته الاجتماعية والثقافية.
لماذا نستعيد التاريخ الاقتصادي اليوم، وهل يصلح لفهم وتفسير ما يجري من تحولات وأزمات كبرى؟ على أية حال لقد اعتادت الأمم بعمومها أو بنخبها وقياداتها أن تلجأ إلى التاريخ، باعتباره مختبرا للدراسة والفهم، أو ملجأ للهروب والحنين. التطرف والسلفية على سبيل المثال يصاحبان الهزائم والأزمات في التاريخ والجغرافيا، لكننا نستطيع بالمراقبة والمقارنة ملاحظة كثير من الكوارث والأخطاء التي تتكرر، ليس لأن التاريخ يكرر نفسه كما يقال، ولكن لعدم الرغبة في الخروج من الأزمة، لأنها (الأزمة) تمثل مصالح وموارد كبيرة لفئات من الناس والقوى السياسية والاقتصادية، وهذا هو مربط الفرس كما يقال!!