مكانك سر
"لقد عرفنا حقوق الإنسان قبل المواثيق الدولية"، عبارةٌ لم تَمُت منذ أن بدأت المنظمات والهيئات الدولية تضع علامات استفهام على أوضاع حقوق الإنسان في بلدان العالم الإسلامي.
لا يَتَرَدَّد المستخدمون لتلك العبارة من رجال الدين الذين لم يقرؤوا من مواثيق حقوق الإنسان إلا بعض عناوينها؛ في تسويق وجهة نظر معاكسة لقناعاتهم المتأصلة والمستمدّة من فهمهم للنصوص؛ حينما ينحصر النقاش في مستويات داخلية وطنية بعيداً عن المحافل الدولية، حيث تَظهَر لغةٌ مغايرةٌ جُلُّ مُفرَداتِها شتائم واتهامات لمضامين العهود والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان ومن أنشأها ومن يعمل على تطبيقها أو ينادي بتبنيها.
هذه الازدواجية تجدُ أصلَها في بعض القضايا التي يُعَدُّ مُجَرَّدَ محاولة تناوُلِها بالتحليل والتأصيل محظوراً من محظورات "المعلوم بالضرورة". فادّعاء القوم بأنّ ما لديهم يتيح حرية العقيدة بالمطلق استناداً إلى "أنّه لا إكراه في الدين"، و"أنّه من شاء فاليؤمن ومن شاء فليكفر"، يقابلهُ إقرارُ القوم أنفُسِهم حينما يحدث أن يشاء أحدهم فـ”يكفر” أو يترك الدين إعمالاً لِأْن “لا إكراه في الدين”؛ بأنّ ثوابت مثل “فمن يبتغِ غيرَ الإسلامِ ديناً فلن يُقبَلَ منهُ وهوَ في الآخرةِ من الخاسرين”، وكذلك “ومن يرتَدِد منكم عن دينِهِ فيَمُت وهوَ كافرٌ فأولئك حبطت أعمالُهم في الدُنيا والآخرةِ وإولئك أصحابُ النارِ هم فيها خالدون”... هي الفيصلُ في الحكم على شخصٍ ما بالردّة أو بتحريم الصلاة عليهِ إن مات أو حتى التَّرحُّمِ عليه، فإن لم يمت فإنّ التفريق بينهُ وبين زوجته أو زوجها والأبناء هو من أبجديات ما ينبغي القيام به.
يحاول أصحاب منهج “ما يطلبهُ المستمعون” إيجاد المقاربات الحقوقية المُدّعى بها في أي مجال وبشتّى الطرق، فتراهم يجدون في ترخيص الزواج للرجل المسلم بالمسيحية واليهودية؛ مِنصّةً يمكنهم من خلالها إطلاق مضاداتهم الفكرية الدفاعية لمواجهة التساؤلات حول مدى انسجام الادعاءات التي يسوّقون لها بالتنوّع وقبوله واحترام عقيدة الآخر والتعايش معها... ثم لا تسمع للقوم قولاً حينما يُسألون من وعائهم نفسه عن حرية المسلمة في الزواج بغير المسلم قياساً على حرية الرجل في ذلك والتي سيقت مثالاً على التعايش والتقارب، ليأتي الجواب قاطعاً بأن هذه الرخصة الأحادية هي تعبير صريح وتجسيد واضح لإقصاء الآخر، حيث أن تبرير تحريم زواج المسلمة بغير المسلم وإجازته للرجل؛ يجد تبريره عندهم في أن الرجل سوف يُنجِب مسلمين بينما سوف تُنجِب المرأة غيرَ مسلمين لأن تبعيّة الأولاد الدينية والمذهبية لأبيهم!
هذا ليس فقط تكريس لثقافة أحادية متعصّبة قوامها "التفوّق الأيديولوجي" لا تختلف في مضامينها وأثرها عن العصبيات الإثنيّة بل هو إقرار ممن يدّعون المقاربات الحقوقية بأفضلية وأولوية وأسبقية... الرجل على المرأة؛ بما يمثّلُهُ ذلك من خرقٍ لمبدأ المساواة وعدم التمييز اللذان يشكلان عماد مبادئ حقوق الإنسان وحجر الزاوية للمواثيق التي تجسِّدُها.
هذه الازدواجيّة الفكرية التي تتطلبها المقتضيات السياسية في الغالب الأعم، من شأنها التأثير سلباً على مصداقية المؤسسات الدينية ورجال الدين الذين يديرونها أو غيرهم من المستقلين الذين يتصدّون لما يظنّوه “دفاعاً عن الدين”، حيث يظهر ذلك الأثر السلبي جليّاً في أروقة الأمم المتحدة والمؤتمرات الدولية التي يتم فيها طرح الأسئلة والتساؤلات الخاصة بعدم التمييز والمساواة وتكافؤ الفرص بين الجنسين وحرية الاعتقاد وممارسة الشعائر وغيرها من الحقوق والحريات الأساسية التي يبدو انتهاكها واضحاً تشريعياً وممارساتيّاً.
فالمراقب من أبناء المجتمع الذي يعاني من غياب مفاهيم وثقافة حقوق الإنسان عن منظومة التشريعات والممارسات المؤسسية والفردية يلاحظ اختلاف اللغة والنبرة وعدم مطابقة ما يُقال للمجتمع الدولي؛ للواقع المُعاش، في المقابل، يعلم السائلون من الخبراء والخبيرات الدوليين عدم انسجام ما يُدّعى به من احترام وضمانات لحقوق الأفراد وحرياتهم مع النصوص التي تشكِّل مصدر القوانين الوطنية وركيزة الممارسات الجَمعيّة والفردية محل السؤال والتحليل في تلكم المجتمعات.
هكذا يفقدُ روّاد المقاربات “الحقوقية” من أتباع مدرسة “ما يطلبه المستمعون” مصداقيتهم على الجانبين بسبب ازدواجيتهم المستندة بدورها إلى أصل من أصول الفقه المتمثّل في “المُداراة... وسدّ الذرائع... والضرورات تبيح المحظورات... والحرب خُدعة... والأعمال بالنيّات...”، بحيث يغدو قول الحقيقة حرام وادعاء عكسها مباحاً “سدّاً للذرائع ودرءاً للمفاسد”.
الانتماء الأيديولوجي والاعتزاز به يتطلب إبرازه كما هو دون تجميل أو تضليل، فليكن عند الآخر ما يكون من مفاهيم وثوابت ومبادئ وقيم، وليكن عندنا ما يكون من سوء فهم وإساءة تعاطي مع الحقوق والقيم، ما دمنا مقتنعين بأننا على صواب وغيرنا على خطأ وأنّ الآخر يقيّم ويَفهم وفقاً لمعاييره التي تختلف تماماً عن معاييرنا. المهم هو أن نكون متصالحين مع أنفسنا فنقدّم ما لدينا بتجرّد وموضوعيّة ولا نقتحم على الآخرين ثقافاتهم وحضاراتهم فنلهث خلف صكوكهم لتوقيعها والمصادقة عليها ثم نقع في حيص بيص لتحقيق المعادلة المستحيلة المتمثّلة في وجوب المحافظة على الثوابت في سياق متغيّر ومتطور.
مسيرة الإصلاح والتغيير والمراجعة والتطوير تتطلب حراكاً فكرياً ليس مكانه “التريدميل” الذي تجمّدت فوقه العقول منذ قرون وليته حتى يعمل.
مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.