مكاشفات قبل تقديم واجب «العزاء»!

مكاشفات قبل تقديم واجب «العزاء»!
الرابط المختصر

لا أدري اذا كان بوسعنا أن نقدم “التعزية” للشعوب العربية بوفاة “ثوراتها”، أعرف ان البعض يتشوق لسماع مثل هذه الأخبار، وان آخرين سيصابون بالصدمة حتى لو كان لديهم بصيص أمل بالانتصار، لكن ما يدفعني الى المجازفة بمثل هذا الاستشعار مسألتان: احداهما تتعلق بدخول “الاجنبي” على الخط، وكأنه قد صحا على ما حدث في عالمنا العربي من تحولات فقرر أن يجهز عليها ويعيد عقارب الساعة الى الوراء، ولا نحتاج هنا الى المزيد من الأدلة، ذلك أنه لا يسعد الغرب أبداً أن تلوح في أفق بلداننا أية اشارة للحرية أو للديمقراطية.. كما انه لا يمكن أن يوافق على بروز تيارات وطنية مستقلة تحكم باسم ارادة الشعب، ومع أننا كنا - فيما مضى - نراهن على قدرة “الشعوب” على انتزاع حقوقها والانصتار على أنظمتها المستبدة، حتى لو وقف الاجنبي ضدها، الا ان هذه الرهانات ما تزال في اطار الأمنيات، وأخشى ما أخشاه ان نبقى في هذا “الوهم”، ثم نصحو على ما انجزناه وقد اصبح هشيماً تذروه الرياح.

يمكن هنا ان استشهد بما حدث في مصر، حيث تبدو “اصابع” الاجنبي واضحة في سيناريو الانقلاب على “ثورة يناير”، وبما حدث في سوريا إذ تحولت “الثورة” الى حرب وتوجها الاجنبي “بالتدخل العسكري” لكي يجهز عليها تماماً.

أما المسألة الاخرى فتتعلق بما صنعته الثورات من “انقسامات” داخل مجتمعاتنا، لا على صعيد النخب والقوى السياسية فقط، وانما على صعيد الشعوب ايضا، ومن أسف أننا وظفنا كل ما نملكه من موروث تاريخي وديني، وتكنولوجي ايضا في “تمكين” هذه الانقسامات وتعميقها داخل تربة مجتمعاتنا، ومع ان تاريخنا العربي لا يخلو من “فصول” المحن والفتن، الا اننا هذه المرة، بما نمكله من أدوات ومكدسات “حضارية” انجزنا “محنة” غير مسبوقة، لدرجة ان ما فعلنا بأنفسنا نتجاوز ما فعله اعداؤنا بنا، وبأن ما كنا نظنه وعياً استعدناه، وحرية انتزعناها، تحولا الى “وهم” أغرقنا جميعاً، واستبداد من نوع جديد صنعناه بأنفسنا.

ربما يعتقد البعض ان ما جرى أمر طبيعي، فالثورات لا تكتمل في جولة أو جولتين، ولا تعدم من يحاول “اجهاضها”، سواء من الداخل أو من الخارج، والشعوب تخوض تجاربها وتدفع أثمانها لكنها لا تستسلم لما يقرره خصومها من نتائج، هذا صحيح - بالطبع - لكن كم نحتاج من الوقت حتى تتهيأ مجتمعاتنا لترميم ذاتها، واصلاح ما تدمر من بنيتها الثقافية والاخلاقية، ثم أين هي النخب والقوى السياسية التي تستطيع ان تقود وتغير “الصورة”، وقبل ذلك كيف سنتصدى “للآخر” المتربص ونحن ما نزال على “ضعفنا” وأيدينا مغلولة اليه.

ليست هذه دعوة للاحباط والتيئيس، ولكنها “صرخة” للمكاشفة ومحاولة “للتبصر” واعادة النظر، وما دام أننا في “بداية” التجربة فالفرصة ما زالت بأيدينا، خذ - مثلا - خطابنا البائس - سواء أكان بلهجة يسارية أو اسلامية - أيعقل ان يبقى كما هو قبل الثورات وما بعدها، خطاباً انتهازياً ويرفض الآخر ولا يؤمن “بالتوافق” ولا علاقة له “بالضمير العام”، خذ - ايضا - هذه البنية الثقافية والاجتماعية الهشة التي حولت مجتمعاتنا الى “مطية” تركبها وسائل الاعلام، وتتلاعب بها “اهواء” السياسة، وكأنها مجرد صدى لما يقال، وخذ ثالثاً هذا “الاشتباك” المخجل بين علماء الدين الذين انقسموا الى “فسطاطين”، وكأنهم خرجوا من المقابر، أو كأننا من العصور القروسطية.

اذا أردنا ان نخرج من هذا “الوهم” ونضمن لشعوبنا أن تستعيد “ثوراتها” وحراكاتها ونضالاتها من اجل الحرية والكرامة والعدالة، فمن واجبنا أن نصارحها بأننا “رسبنا” في الامتحان الاول، لكننا لم نستسلم، واننا مدينون لها “باعادة” الجولة، لكن على أسس اخرى، تماماً كما فعل غيرنا، حين استلهموا “التوافق” من الدماء التي سالت، وقيم السماحة والعفو من الدمار الذي خلفته الحروب فيما بينهم، سواء في أوروبا أو في جنوب افريقيا، أو في غيرها من البلدان التي خرجت من “محنة” الثورات والصراعات الى “نعمة” الديمقراطية والحرية.

باختصار، لا يكفي أن نردد بان ارادة الشعوب ستنتصر، المهم أن نعرف كيف تنتصر، وماذا نفعل لكي تنتصر، فالأمنيات والرغبات هي “خزانة” العاجزين و”مركب” المسافرين على ألواح الوهم.. النائمين على “وسائد” الزيف والاستكانة.

لصحيفة الدستور

أضف تعليقك