مصر أم الدنيا صانعة التاريخ

مصر أم الدنيا صانعة التاريخ
الرابط المختصر

مصر أم الدنيا وأم المفاجآت لا تنفك عن توليد الجديد الذي يدور حوله الجدل والنقاش!  فهل ما جرى فيها منذ أيام ثورة أم انقلاب عسكري؟  هل يبرر خروج الملايين إلى الشارع خطوة الجيش؟  ألا يفتح هذا الحدث الباب أمام مخاطر عدة منها السيناريو الجزائري؟  ألا تحمل أحداث دار الحرس الجمهوري نذر تدهور أمني؟  ألن تصب الأحداث في صالح التطرّف والإرهاب؟ في مستوى من المستويات، تعبّر هذه التساؤلات المشروعة وغيرها عن كون الحدث حدثًا من نوع جديد لم نألفه في الوطن العربي، إنه حدث سياسي لكن له بعد تاريخي على مستوى العالم، ولعل الإرباك الحاصل في فهمه وتقييمه ناتج عن جدته وعن جدة القضايا التي استحضرها وجديتها؛ فهل الثورة لحظة أم عملية ممتدة في الزمان؟  وهل مجرد عقد الانتخابات دليل على تحقق كامل للديمقراطية؟  وهل نتائج الصندوق تمنح الفائز تفويضًا لا يمكن النكوص عنه إلا بانقضاء المدة؟  هل يمكن لتدخل العسكر في السياسة ألا يعتبر انقلابًا عسكريًا؟ سنحاول فيما يلي أن نضع الحدث في سياقه التاريخي لفهمه بصورة أعمق.

أولًا: ثورة يناير

في العام 2011 تمكنت جماهير الشعب المصري العظيم وعلى الأخص شبابه وشاباته ومثقفيه وفئاته الاجتماعية التي انسدت أمامها سبل العيش الكريم من إرباك النظام الفاسد إثر اندفاعها إلى الميادين، فاضطر لفتح حوار مع الأحزاب قاده عمر سليمان وشارك فيه الإخوان المسلمون وآخرين.  لكن ما إن بدأت بوادر انضمام العمال وفئات اجتماعية أوسع إلى الحراك الثوري وشلت الحركة الاقتصادية والاجتماعية حتى أدركت السلطات وعلى رأسها الجيش أن على مبارك أن يرحل.

وكان من نتيجة التجريف السياسي الذي ساد في العقود السابقة أن أهداف الثورة: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية" لم تجد رافعة تنظيمية تحملها وتذود عنها، ولم تتشكل كتلة شعبية أمينة على الثورة وأهدافها في الفترة القصيرة بين 25/1 و 11/2، وما كان ذلك ممكنًا.  وقد سهل هذا الوضع حرف مسار الثورة، فقد التقت مصالح جماعة الإخوان والمؤسسة العسكرية والولايات المتحدة، وبتمويل من دول النفط والغاز، على تنظيم انتقال السلطة وإدارة دفة الحياة بما يضمن مصالحهم وليس بما يضمن تحقيق أهداف الثورة، وتم تسليم السلطة للمجلس العسكري.

وقد انتشت القوى الثورية بإعلان انتقال السلطة لكنها لم تستطع البقاء في الميدان وبخاصة بعد أن أصرت جماعة الإخوان على مغادرته.  ومنذ تلك اللحظة بدأت سلسلة من الأحداث التي ربما بدت أخطاء، ولكن البعض اعتقد أنها مقصودة ومخطط لها، تلخصت في الانتقال من الاستبداد والدكتاتورية إلى الصناديق مباشرة ومن دون مرحلة انتقالية يتم فيها التوافق على دستور لا يقصي أحدًا ويؤسس لدولة مدنية تنظم الخلاف وتديرة بطريقة سلمية (فالدولة المدنية شكل توافقي يسمح بإدارة الاختلاف ولا يلغيه).  وبالطبع، فإن القوى الأفضل تمويلًا وتنظيمًا استطاعت أن تفرض ميزان قوى صاغ الدستور غير التوافقي وشق المجتمع المصري.

لم تهتم القوى الخارجية لما يجري في داخل مصر بعد أن اطمأنت إلى إن حكم الإخوان لن يغير في الأمور الجوهرية بالنسبة لها: فقد تمت المحافظة على الاتفاقات الدولية (كامب ديفيد أساسًا) واستمر الحكم الإخواني في عدم تهديد أمن إسرائيل، ولعبت مصر دور الوسيط بين حماس وإسرائيل ناهيك عن إغلاقها الأنفاق مع غزة "بكفاءة" أعلى من أيام مبارك، كما تم تأمين الملاحة الدولية في قناة السويس، وتم الإبقاء على علاقة الجيش المصري بأمريكا، وعززت مصر من صلاتها بصندوق النقد الدولي ولم تتراجع عن الليبرالية الاقتصادية بل تصاعدت ديونها الداخلية والخارجية.  وهكذا تم تفصيل طريق جديد للثورة كان بمثابة اختطاف لها من الكتل المجتمعية صاحبة المصلحة فيها وعبّر عن بقاء مصر في موقعها التابع الذي كرسه انفتاح السادات وفساد مبارك.

سار الإخوان على هذا الدرب وبدأوا بالسيطرة على مفاصل الدولة ومن ضمنها المؤسسة العسكرية حيث تمت إقالة عنان وطنطاوي (وكان السيسي ثمرة توافق بين مرسي والأمريكان).  واعتبروا أن ثورة يناير قد انتهت بمجرد انتخاب مرسي رئيسًا واعتقدوا أن المجال مفتوح أمامهم لتغيير طبيعة الدولة ولأخونتها.

ثانيًا: حكم الإخوان

بعد انقضاء فترة حكم المجلس العسكري وتناقضاتها استشعر الشعب المصري أن واقعه الاجتماعي والاقتصادي في تدهور مستمر وأن الحزب الحاكم الجديد يظهر تعطشًا للسلطة، وميلًا واضحًا لإقصاء المخالفين في الرأي، بل وحتى الحلفاء (مثلما حصل مع السلفيين).  وفي هذه الفترة اتضح جليًا أن هناك تعهدات دولية لم يخل بها الإخوان (إسرائيل، صندوق النقد الدولي ...) واتجه الإخوان إلى نعت معارضيهم بالفلول في مسعى لسحب الشرعية عن كل أشكال المعارضة، وتمسكوا بفكرة شرعية الصندوق ليبرروا استفرادهم في السلطة واستبدادهم، متجاهلين أن مرسي بالكاد نجح وأن العديد ممن صوتوا له إنما فعلوا ذلك درءًا لخطر نجاح شفيق.

يصعب في هذه العجالة تعداد الخطايا التي ارتكبها حكم الإخوان، فقد امتدت من إثيوبيا إلى سوريا، وقد طالت ليس وحدة الشعب المصري فحسب بل سعرت الصراع السني الشيعي في المنطقة (وهو الصراع المفتعل والمرفوض مبدئيًا).  أما على المستوى الداخلي فقد كان التخبط والفشل واضحين في كل المجالات، كما كان من الواضح أن للإخوان موقفًا طبقيًا يخالف مصالح الغالبية الشعبية، فقد وقفوا ضد قانون الضريبة التصاعدية وقانون الأجور العادل ولم يراجعوا السياسات النيوليبرالية التي جلبت الخراب لمصر.  ونشير على وجه التحديد إلى مشروع الصكوك الإسلامية ومشروع سلطة قناة السويس اللذين كانا سيؤديان إلى بيع أصول مصر ووضعها بيد تحالف الإخوان وحلفائهم الخارجيين.  وفي الحقيقة، لا يملك المراقب إلا أن يلاحظ أن الاسباب التي قادت إلى ثورة يناير ظلت قائمة، لا بل تزايدت باضطراد، وبخاصة بعد أن اتضح بجلاء أن هدف الإخوان كان تمكين الجماعة عوضًا عن تمكين المجتمع والشعب والدولة.

ثالثًا: تمرد

في ظل هذا الواقع بدأت قاعدة المصوتين للإخوان بالابتعاد عنهم، وانفضت عنهم كتل كانت تحسب لهم وكانوا يعتقدون أن ولاءها مضمون لاسباب أيديولوجية، وغفلوا عن حقيقة أن الناس تمنح صوتها لمن يمثل مصالحها، أي لأسباب دنيوية، فضمان الآخرة ضمن سيطرة الفرد وحده ولا يحتاج "للجماعة"، واعتقدوا أن من يعطيهم صوته مرة فإنه مصوّت مضمون "وفي الجيبة".  وفي مجابهة هذا الواقع اتسعت المعارضة لحكم الإخوان، لكنها لم تصب تلقائيًا في طاحونة المعارضة القائمة، ذلك إن الجماهير قد اختبرت هذه القوى إبان صدامات الاتحادية في نهايات العام 2012 ولم تشعر أن لديها برنامجًا سياسيًا يتجاوز الدعوة للمظاهرات والاحتجاج.  وبدا هذا الأمر مريحًا للإخوان الذين اطمأنوا إلى حدود معارضيهم وأغمضوا أعينهم عن الواقع الذي شرع بالتكوّن.

وكما يقال، فإن لا شيء أقوى من فكرة آن أوانها، فالفكرة سلاح المهمشين والضعفاء، وهي ما يعوض عن نقص الإمكانات المادية واللوجستية.  وهذا ما التقطه ثلة من الشباب عرفوا باسم "تمرد"، وفي الجوهر فقد كانت فكرتهم ليس خوض اللعبة السياسية التي وصلت مصر إليها بعد اختطاف الثورة، فتلك لعبة تجري على ملعب الخصم ووفق شروطه غير العادلة (الدستور وإعلام الفتنة...).  وأدركت الحركة أن الأمر لم يعد أمر مليونيات، بل أصبح موضوع تصحيح المسار عن طريق الزج بكتل شعبية واسعة في النضال من أجل استعادة مصر.  وقد انحازت لهذه الفكرة مختلف القوى وفي المقدمة منها جبهة الإنقاذ.  وكانت الفكرة الرائدة على مستوى العالم وعلى مستوى التاريخ هي جمع تواقيع أعداد من المصريين تفوق أعداد الذين صوتوا لمرسي في جولة الإعادة، الأمر الذي يعطي معنى جديدًا لفكرة أن الشعب يمنح السلطات ويحجبها، ويكسبها أداة عملية تنقلها من حيز المبدأ العام إلى طريقة عملية يمكن تطبيقها.

عبرت الحملة المؤيدة لفكرة "تمرد" عن خيبة أمل المصريين من حكم الإخوان وعلى التزامهم بشعارات ثورة يناير، فانضمت كتل اجتماعية جديدة إلى الحملة وبدأت التواقيع تنهال بالملايين من فئات وطبقات اجتماعية متنوعة، وكان لكل منهم دوافعه المشروعة، فبدأت كتلة اجتماعية حرجة بالتشكل وتجاوزت قضية الموالاة والمعارضة، حيث بدأت نذر استئناف الثورة بالتشكل.

يصعب تصور أن مرسي والإخوان كانوا مصابين بالإنكار وأنهم فعلًا صدقوا أن المعارضة ضعيفة ومشتتة وأنها ليست سوى الفلول!  ولو كان ذلك صحيحًا فإنه يظهر الإخوان كجماعة منبتة عن الواقع.  أما الأرجح فهو إدراك مرسي والإخوان أن ميزان القوى قد تغير، لذلك ركزوا في خطابهم على أنهم الوحيدون الذين يمثلون الثورة، وشنوا حملة عنوانها التماثل بين الشرعية والشريعة، ورفضوا الاستفتاء كمخرج نتيجة لتقديرهم أنه لو أجريت الانتخابات الرئاسية المبكرة فإن مآلهم هو الخسارة.  وعوضًا عن مجابهة الواقع بدأوا باستدعاء الخارج واستدرار العطف الأمريكي؛ فقطع مرسي العلاقات مع سوريا وفتح باب "الجهاد"، وانخرط في الصراع السني الشيعي المفتعل.  وتبنى هو وحزبه لغة تدعو للدم والعنف وهدد المعارضين والإعلام وأعلن أن بديله الفوضى تمامًا كما أعلن المستبدون الذين سقطوا قبله.  وكأنما كان رهانه أن يكسب اللحظة بكل ما يعنيه ذلك من يد مطلقة تنقض على الخصوم، أو إجبار الجيش على التدخل ليظهر هو وحزبه بصورة الضحية.  ولا بد أنه راهن على أنه في حال تدخل الجيش لعزله سيعمل على خطين: الأول هو تشجيع العمل العنيف ضد الدولة والجيش والمعارضين (وهو ما أسس له تهديده بالدم والفوضى) فيما يعلن تبرؤه من القائمين عليه وإصراره على الدعوة للاعتصام السلمي ليظهر بمظهر الاعتدال، وليلقي باللوم على من "أسقط الشرعية"، والخط الثاني هو التباكي على الديمقراطية والظهور بمظهر الضحية لكسب التعاطف ولإنتاج مركز تفاوضي جديد يبرر السقوط التاريخي لحكم الإخوان في محاولة لتجاوزه متمثلًا بأردوغان الذي عاد إلى السلطة بعد عدة سنوات من إسقاط الجيش لأربكان.  لكن أليس من المفارقة أن يهاجم مرسي المؤسسة العسكرية لموقفها الانحياز إلى الملايين في الشارع فيما يمدحها لموقفها نفسه في العام 2011؟

بعد أن أعلنت تمرد عن جمعها 22 مليون توقيع ونيف بات جليًا أننا أمام انتفاضة شعبية حقيقية من نوع مختلف ولسنا أمام صراع بين ميدانين.  صحيح أن للإخوان المسلمين قاعدة شعبية يعتد بها، لكن الجماهير التي اندفعت إلى الشارع بأعداد تجاوزت الثلاثين مليونًا من البشر وبكل المقاييس تتجاوز المشاركين بالانتخابات الرئاسية، وتمثل استئنافًا لثورة يناير وتصحيحًا لمسارها واستدعاءً لشرعيتها تمامًا كما كان الحال عليه في العام 2011.  كما مثلت هذه الحركة إنقاذًا لوعي الناس الذي كان يقول إن ثورة يناير قد آلت إلى خريف إخواني أمريكي.  باختصار، كان 30 حزيران خطوة جديدة في مسار انطلق في يناير؛ مسار لم ينتهي بعد ولا يمكن الجزم بنهاياته، مسار قد يتم حرفه ثانية... لكن بالإمكان استعادة مرة أخرى.  لهذا الأمر دلالات على مستوى الوطن العربي كله، حيث أصبح تحديد المسار وتعديله بيد الشعوب.

رابعًا: دلالات الحدث واحتمالات المستقبل

يمكن الخروج بمجموعة من القضايا التي تستحق التأمل والتي قد تكون عنوانًا للدراسة في المستقبل.

1-  الشعوب قادرة على استعادة زمام الأمور وانقاذ الثورة لو تم اختطافها مرحليًا،  والمهم هو عدم الركون والاستسلام.  كما يمكن التأكيد على أنه ليس ثمة أوصياء على الشعب يسكتونه وينطقون باسمه.  ومن هنا فإن على المثقفين والسياسيين التروي قبل إصدار الأحكام التي مفادها أن الشعب غير قادر على التغيير، وأن الربيع العربي تحول إلى خريف وما إلى ذلك من أحكام سوداوية هدفت إلى إحباط الوعي الجمعي بأهمية حركة الشعب.

2- أي انحراف مستقبلي عن أهداف الثورة لم يعد سهلًا، فالشعب بالمرصاد وقد عرف طريقه حيث كان الإبداع الرئيسي لملايين شعب مصر العظيم هو في إعطاء معنى جديدًا وآلية جديدة واضحة للديمقراطية المباشرة.  بالطبع لا بديل عن التمثيل النيابي ولا استغناء عن الديمقراطية غير المباشرة، لكن الرقابة الشعبية على الهيئات المنتخبة يجب ألا تقتصر على الإعلام وعلى الاعتصام والاحتجاج فحسب، فقد أبدع الشعب المصري طريقة جديدة هي الطوفان البشري... التصويت من جديد دونما صندوق.  ولمزيد من الإيضاح نقول إن الديمقراطية مبدأ أما الصندوق فوسيلة، لذلك يمكن أن نصل للديمقراطية عن طريق الشارع من دون الاضطرار للانتظار أربع سنوات يستمر فيها التدهور، وهذا تجديد وإبداع.  بذلك فإننا لسنا بصدد النقاش الأكاديمي حول هل ما حصل ثورة أو انقلاب، ولسنا في حال مقارنة مع الغرب حيث هناك تقاليد ديمقراطية واضحة تضمن ألا يقوم الفائز بالانتخابات بتغيير قواعد اللعبة الديمقراطية بناء على رغباته وحده.  فهذه قضايا لم تعد ذات أهمية في النقاش السياسي الحالي. وفي هذا السياق يرى البعض أن هناك خطر اللجوء المستمر لهذا الأسلوب إثر كل انتخاب، وهذا تخوف مشروع، لكن الناس لا تخرج بالملايين على سبيل الهواية والتسلية!  فخروج الناس بهذه الأعداد دليل على عدالة قضية يحملونها وعلى وجوب الاستماع لرأيهم... ولو خرجوا بهذه الأعداد على الحكومة القادمة فلا بد وأن يكون لديهم رسالة لإيصالها ولا بد من احترامها لأنه صار من الواضح أن شعار جماهير مصر هو: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية" ولا شيء غير ذلك.

3- ما جرى في مصر مؤخرًا تم على نفس مسار يناير 2011، بل يمكن اعتباره المرحلة الثانية من الحدث نفسه؛ فقد تحركت الملايين من الناس وفرضت التحرك على الجيش الذي استجاب لمطالب الناس.  أما في حال عدم تحرك هذه الحشود فإن السيناريوهات أمام الجيش كانت تتراوح بين بقائه مراقبًا وبين قيامه بانقلاب عسكري تقليدي في حال توفر الرغبة والنية بالتدخل.  بالطبع لا نشعر بالراحة للتدخل العسكري في الحياة السياسية إذ لنا ذكريات سيئة عن الفترة بين رحيل مبارك واستلام مرسي، ولا ننفي احتمال قيام الجيش باستغلال اللحظة لاستيعاب الحراك الثوري.  وعلى الرغم من أنه في هذه المرة حرص الجيش على ألا يستلم السلطة مباشرة وسلمها للمدنيين فورًا في خطوة تختلف عن العام 2011، فإنه لا يزال لدينا الكثير من التساؤلات عن دوافع العسكر وخططهم وعلاقتهم بالأمريكان، ناهيك عن اندفاعة دول الخليج لدعم مصر. إلا إننا وفي الوقت نفسه لا نستطيع أن نغفل حقيقة شرعت بالتوضح في الأعوام الأخيرة وبخاصة بعد تضاؤل دور القطاع العام في الوطن العربي، فقد بدأت وحدة المجتمع بالتفكك، وتراجع دور مؤسسات الدولة في الحفاظ على وحدة الدولة، ولم يبق إلا الجيش كمؤسسة ضامنة للوحدة الترابية والوطنية.  وقد كانت حصيلة السنة من حكم الإخوان هي تهديد الوحدة الوطنية في مصر، وجلب أعداد متزايدة من الإرهابيين ليتمركزوا في سيناء ويكونوا بمثابة خنجر مشهر في خاصرة مصر ومن أشد جبهاتها حساسية، فكيف لا يشعر الجيش بالتهديد ؟

4- لا تزال الأخطار محدقة بالعملية الثورية، فسيناريوهات العنف والإرهاب واردة، ومع أن المسؤول عن التحريض على هذا العنف هو الإفتاء الشرعي الذي قام به مرسي وحزبه، فإن الطريق الأسلم لتجنب سيناريو الفتنة هو العمل على المصالحة الوطنية، وبالتالي لا يجوز التعامل بشماتة أو بروح انتقامية مع جماعة الإخوان.  وعلى هذا الأساس فإننا نرفض إغلاق القنوات الفضائية واعتقال قيادات الإخوان دون محاكمة، وندعو لضمان حقهم في التظاهر السلمي، لكننا وفي الوقت نفسه ندعو لمجابهة دعوتهم للعنف والتعاطي معها ضمن إطار سيادة القانون.  وفي هذا الصدد، فإننا نقف أمام ما حصل أمام دار الحرس الجمهوري بصفتها لحظة فارقة مثلّت مطبًا للقوات المسلحة، ونرى أنه لا بد من الاتعاظ مما جرى حتى قبل صدور نتائج التحقيق.

5- الثورة عملية طويلة وليست تجريدًا مثاليًا.  بكلام آخر، أمامنا سنوات طويلة مما قد يبدو فوضى، لكنها الفوضى التي تسم كل المراحل الانتقالية.  وإذا كان 25 يناير هو المحطة الأولى فإن 30 يونيو هو المحطة الثانية على طريق تغيير طويل قد يستغرق عشرات السنين.  وللتذكير، فإن الثورة الفرنسية استغرقت حوالي القرن لتثبت مبادئها هذا في حين كان التدخل الخارجي أقل بما لا يقارن عما يبلغ في الوطن العربي، وفي حين عدم وجود دولة احتلال على حدودها.

6- أهم سبيل من سبل حماية ثورة مصر هو بناء التوافق الوطني، وهذا يتطلب العمل على إرساء اسس دولة مدنية تعلي من شأن المواطنة وتبدع في إظهار التزامها بخط التحرر الوطني، إذ يتكامل المساران ويترابطان، وهذا رهن بتشكل الكتلة الأمينة على أهداف الثورة كتنظيم وكبرنامج.  وعلى هذا الاساس تفتح ملفات كامب ديفيد، والعلاقات مع الولايات المتحدة، وملف الاقتصاد والعدالة الاجتماعية الخ... فالدعوة للديمقراطية دون مراجعة التبعية وهذه الاتفاقيات تبقى دعوة ساذجة لا معنى لها.  أما عن التسلسل الذي يضمن هذا التوافق فيبدأ بعملية مصالحة وطنية لا تقصي أحدًا، ثم صياغة دستور توافقي يتم طرحه في استفتاء عام، ومن ثم يصاغ بناء عليه قانون انتخاب على أساس التمثيل النسبي، وأخيرًا تتم الانتخابات بناء على مبدأ أن تداول السلطة لا يمنح الأغلبية الحق في تغيير أسس التوافق أو طبيعة المجتمع بناء على رؤيتها فحسب.  ومن هنا فإن على أصحاب الرؤوس الحامية أن يهدأوا ويدركوا التغيرات التي حصلت على الأرض ويسمعوا صوت الملايين الهادرة، فالتوافق يحتاج إلى التعالي على الجراح ويتطلب شيئًا من التنازل من قبل الجميع.

7- وختامًا، فإن فيما جرى درس للحكام على مدى الوطن العربي بأسره، ففيه إشارات إلى تعافي حركة الشعوب، وهذا ما يجب أن يراه الحكام، وهو ما يتطلب منهم انفتاحًا على شعوبهم لجهة القيام بإصلاح حقيقي وجدي.  وحذار من ركونهم إلى الراحة الزائفة التي قد تنتجها القراءة الخاطئة للأحداث... فما جرى ليس هزيمة لمشروع أو لحزب على يد المؤسسة العسكرية، بل مؤشر على بروز قوة لا تقهر... الشعب!

أضف تعليقك