محمد السنيد: ماوراء الفصل والاعتقال

محمد السنيد: ماوراء الفصل والاعتقال
الرابط المختصر

تابعت بمواظبة نسبية قضية عمال المياومة منذ انطلاقها قبل أربع سنوات, وقد قمت بذلك باحثاً ومستفهماً ومتفحصاً ومراقباً ومتضامناً, وفي هذه الأثناء أمضيت عشرات الساعات معهم وزرتهم في مواقع عملهم وحضرت عدداً كبيراً من اعتصاماتهم.

بلا أدنى تردد يمكن القول أن حركة عمال المياومة الأردنيين تشكل نموذجاً فذاً لحركة اجتماعية ديمقراطية أصيلة, وهي في البلد تكاد تنفرد بحجم ما فيها من مؤشرات على حيوية الفئات الشعبية الفقيرة المتضررة من السياسات الاقتصادية الاجتماعية التي سيطرت منذ عقدين, ولكن بشكل خاص خلال العقد الأخير. إن الأغلبية الساحقة من عشرات ألوف عمال المياومة ينتمون إلى مناطق الأرياف والأطراف التي تعتبر المتضرر الأكبر من تلك السياسات, إن مصيرهم يعتبر مؤشراً على سقوط واحدة من أساطير التفكير السياسي الاجتماعي السائد في البلد, أي تلك الأسطورة التي تدعي أن أجهزة الدولة تحمي وتستوعب وتحابي أبناء الريف والقرى والمدن الصغيرة.

على العموم هذا موضوع كبير وجدير بالنقاش العميق, لكننا اليوم أمام تطور جديد ويبدو أنه ذو فصول متتالية, فقد أقدم وزير الزراعة على فصل محمد السنيد النقابي الأبرز في حركة عمال المياومة, وأول من أمس جرى اعتقاله وإحالته إلى محكمة أمن الدولة.

اليوم يتعين علي أن أسجل شهادتي على محمد السنيد كنقابي يذكرنا بسيرة وسلوك رواد النقابات العمالية الأصلاء الذين ظهروا في عصر ما قبل المقاعد الوثيرة للقادة النقابيين المعاصرين.

محمد السنيد وزملاؤه ظاهرة نقابية خاصة. لقد طوعوا متطلبات العمل النقابي للشروط الثقافية والاجتماعية لعمال المياومة أي لأصحاب العلاقة بهذا العمل النقابي. لقد شاهدته يدير لحظات معقدة من نشاطهم بذكاء بدوي مختلط بقدر من المكر بالخصوم إذا لزم الأمر, والمكر هنا صفة تعادلها الخبرة والمهارة في التفاوض في لغة العصر. غير أن محمد وزملاءه أجادوا أيضاً السخرية من خصومهم ومن ظروفهم أيضاً وظلوا متماسكين ومتمسكين بأصالتهم, لقد ضحكوا طويلاً ذات يوم بعد أن غادروا إلى بيوتهم في ذيبان وهم مضربون عن الطعام عندما أصر أحدهم على دعوة المجموعة إلى بيته قائلاً: كونوا مطمئنين لن تفكوا الإضراب عن الطعام إذا لبيتم دعوتي, لأنه لا يوجد طعام في البيت أقدمه لكم. وفي حادثة أخرى, نعثر على جواب كركي أصيل قدمته إحدى عاملات المياومة في الكرك للمسؤول الكبير الذي عرض أمامهن اقتراح وزير الزراعة بتدريب العاملات المفصولات ضمن مشروع التشغيل لأن الوطن واحد وعلينا أن نعمل في أي جزء منه, فقالت له: حسناً أنا موافقة بشرط التحاق شقيقات الوزراء ورؤساء الوزارات بجانبي في التدريب للعمل في الوطن نفسه, وبعد لحظات عندما تم استدعاء أحد الزعماء المحليين في الكرك للتدخل وجعل المفصولات المعتصمات يغادرن إلى بيوتهن قالت له أحداهن: ما دمت قدمت الينا كزعيم كركي, أطالبك بموقف يشبه مواقف زعماء الكرك الأوائل.

في دولة تحترم شعبها فعلاً, يفترض أن يمعن المهتمون بتطور البلد والحريصون على النموذج الذي يحتذى النظر في تجربة هؤلاء الشجعان على بساطتهم بل وبسبب بساطتهم. وإذا كان وزير الزراعة الحالي هو الذي يقف في مقدمة المتصدين لهؤلاء العمال, فأنا أدعو إلى دراسة منصفة تقارن بين البعد التنموي في موقف السنيد وزملائه من جهة والبعد التنموي في موقف هذا الوزير من جهة أخرى, وفي مجال الزراعة بالذات.

ولكن قبل كل ذلك, الكل مدعوون للانتباه إلى خطورة فصل واعتقال ومحاكمة محمد السنيد