متوسط عمر الحكومات و التأسيس للمستقبل
في غياب الحياة السياسية الحزبية في البلاد، حيث تشكل حكومات برلمانية وفقا لبرامج تنتخب على اساسها من الشعب، ليس من المستغرب ان يكون متوسط عمر الحكومات في الاْردن لا يتجاوز السنة الواحدة. و لا يرتبط هذا المتوسط بطبيعة اي حكومة، محافظة كانت ام ليبرالية ام بين بين، بقدر ما يرتبط بظروف معينة، و هي عديدة، تحدد متى تأتي حكومة و متى ترحل، و في غالب الاحيان دون ان يعرف الناس القدر الكافي عن أسباب المجيء او الرحيل.
لا بد و الحالة هذه ان يدرك اي رئيس حكومة ان الوقت الذي سيقضيه في الدوار الرابع لن يسمح له باجتراع المعجزات، و لذا فأمامه طريقان: اما ان يبدأ بوضع اللبنات التي من شأنها التأسيس لبناء دولة المؤسسات و هو يعرف انه لن يكمل المشوار، غير ابه بالعراقيل التي يتم وضعها أمامه، و اما ان يغرق في التفاصيل، و يحاول ارضاء اكبر عدد ممكن من القوى النافذة في البلاد، فتأتي حكومته خليط غير متجانس و بالتالي عاجزة عن دفع العجلة الى الامام. و في الحالتين، فان القرارات المهمة يتم اتخاذها عادة في الأشهر القليلة الاولى حين تحظى الحكومة بشهر عسل من الجميع، فان انقضت هذه الأشهر، تنشغل الحكومات عادة بصراعات عدة داخل الحكومة و خارجها تنهك قواها و تؤدي في النهاية لتغييرها.
حكومة د عمر الرزاز لم تسلم من هذه المتناقضات. لكن الرئيس الذي جاء بناء على رضا شعبي كبير، اختار التريث في اشهر الحكومة الاولى، و محاولة ارضاء الجميع حتى انتهى الى عدم ارضاء احد. كانت التوقعات ان يكون مختلفا، و ان تكون الحكومة صاحبة قرارات في أشهرها الاولى تقنع الناس انها تعمل في مجال بناء دولة المؤسسات، لا سن قانون جديد للضريبة فقط، فجاء اختلافه عن غيره احيانا كثيرة لفظيا و مصحوبا بالنية الحسنة دون اقرانها بالخطة و الارادة المقنعة. فكانت النتيجة خليط عجيب من المحافظين و الليبرالين داخل الحكومة، و بقيت الممارسات السابقة، بينما تتصارع القوى المختلفة داخل حكومته قبل ان تتصارع خارجها. و في النهاية، لم تشفع له نظافته و لا نيته الحسنة و لا مقاربته الأكاديمية في البدء بالتغيير المطلوب، بل ادى تردده و التناقض داخل حكومته للتخبط، فكانت الأزمات المتلاحقة و غير الضرورية، و اخرها أزمة التعيينات.
الجزء المحافظ في الدولة و المجتمع مسرور جدا مما الت اليه اوضاع الحكومة، و ها قد بدأ يحذر الاردنيين من هؤلاء الليبراليين الذين لم يفعلوا شيئا و يبشر بعودة المحافظين، و كأن المحافظين كانوا قد غادروا. ينسى هذا المكون انه في خضم الصراع العقيم بين الليبرالين و المحافظين لا يسلم احد منا جميعا من المسؤولية. و ينسى ايضا ان الازمة الاقتصادية الخانقة التي مر بها الاردن عام ١٩٨٨ وقعت بينما كان المحافظون على سدة الحكم ما اضطر الاْردن للذهاب الى صندوق النقد الدولي للمرة الاولى. في غياب دولة المؤسسات، و نظم المراقبة و المحاسبة، فان الجميع يتحمل قسطا من المسؤولية.
لا نعرف بعد مدى طول عمر هذه الحكومة، و ان كانت هي تساهم في تقصير مدتها، بسبب ترددها و عدم وضوح بوصلتها. اما الحكومة القادمة، فلم يعد مهما ان كان رئيسها محافظا او ليبراليا، لان أيا من الصفتين لا تعني بالضرورة وجود الارادة الحقيقية لبناء دولة المؤسسات. و لعل هذه هي المسطرة التي يجب ان يقاس اداء الحكومات القادمة بموجبها. هل تتحلى الحكومة القادمة بالجرأة في قراراتها بما يسمح بالتأسيس لدولة المؤسسات غير أبهة بمدة بقائها في الحكم؟ و هل هي مستعدة لمجابهة القوى المعترضة للتغيير ام انها ستقع هي الاخرى في مستنقع التنازلات و التفاهمات؟