ليس ترفا أو إضاعة للوقت!

ليس ترفا أو إضاعة للوقت!

في افتتاحيتها، قبل يومين، كتبت أسرة تحرير هآرتس عن منع المفكر الأميركي (اليهودي) الشهير نعوم تشومسكي من دخول إسرائيل، ووصفتها بأنّها " قضية كبيرة جديدة في المعاملة المثيرة للحفيظة التي تنتهجها إسرائيل تجاه كل من يتجرأ على انتقاد سياستها". ثمّ شبّهت الافتتاحية إسرائيل بأنّها "تتخذ صورة الأزعر الذي يشعر بالإهانة فيحاول التصدي للريح".

بالأمس، وفي الصحيفة نفسها، كتب جدعون ليفي "عندما تغلق إسرائيل بواباتها في وجه كل من لا يقع في الخط الرسمي لسياساتها الرسمية سوف نصبح أكثر وأكثر مثل كوريا الشمالية".

ليست هذه المرّة الأولى التي لا تتوانى فيها افتتاحيات هآرتس وكتّاب أعمدتها عن توجيه انتقادات حادة لإسرائيل وسياساتها، وفي مواضيع حسّاسة ومهمة وخطرة.

أحرص صباح كل يوم، خلال تصفّح "الغد" على البدء بالصفحة العبرية، وتحديداً افتتاحية هآرتس، التي أستمتع كثيراً بلغتها النقدية الحادّة، وبخطّها التحريري الواضح.

على الرغم من الأرضية السياسية والثقافية المختلفة كثيراً، التي تفصلنا عن هآرتس ومواقفها، وتحديداً في سؤال الاحتلال والمقاومة، وعلى ما بيننا من مسافات شاسعة في المواقف والقيم، إلاّ أنّ الموضوعية تقتضي الإقرار لهذه الصحيفة بقدرتها على تجسيد معنى الإعلام المهني الحرّ، الذي يفسّر غيابه لدينا سبباً من أسباب تفوقهم.

هآرتس تمتلك، عملياً، "شهادة" ضمنية عالمية بأهميتها، وما تمثّله من خط سياسي. وميزتها على صحف المعارضة العربية لا تكمن في الخطاب الأيديولوجي النظري، بل قدرتها على توفير معلومات ووثائق وتحليلات، لا يمكن أن يجدها المتابعون داخل إسرائيل وخارجها، في غير هذه الصحيفة.

هذا الخطّ التحريري تحافظ عليه الصحيفة، حتى لو تعلّق الأمر بموضوعات أمنية وحسّاسة، كما حصل معها (في الأشهر الماضية) في قضية الصحافي أوري بلاو، الذي سرّبت له صحافية إسرائيلية (كانت تعمل في مكتب قائد الجبهة الوسطى للجيش الإسرائيلي) قرابة ألفي وثيقة، كان جزء كبير منها يدين إسرائيل قانونياً ودولياً.

سقوف هآرتس الإعلامية وحريتها (التي تسجّل لإسرائيل، على الأقل في معادلتها السياسية الداخلية) ليست آنية أو هشّة، ولا عَرَضاً لأمزجة من هم في "مطبخ القرار"، وليست موسمية، ولا تذوب وتذوي عندما "تُنغز" من الخلف، فيتحول الإعلام إلى "مجموعة دبّيكة" فاشلين لتسويق السياسات الرسمية والقرارات الحكومية.

بلا شك، تتعرّض هآرتس لضغوط من الرأي العام الإسرائيلي، أكثر من الحكومة (!)، وقد تقف في لحظات من دون أن تقول كل ما تريد أو على الأقل عند قناعات كتّابها الذين يمثّل أغلبهم اليسار الصهيوني، لكنّنا لن نجد تقارير سمجة ممجوجة مضحكة تملأ صفحاتها، ولا افتتاحيات بهلوانية، ولن تستخف بعقول الرأي العام بلغة تدعو إلى الضحك عن السياسات أو المواقف الرسمية!

ما يكفل لهآرتس هذه المساحة، بالإضافة إلى قرارها الذاتي، هو وجود قناعة لدى النخبة الإسرائيلية بأهمية وجود خط الصحيفة وبدورها الإعلامي، على الرغم مما تمثله من صُداع لحكومة يمينية متطرفة يقودها نتنياهو، وعلى الرغم من الحرب الشرسة التي تشنّها على "اليمين الديني" في إسرائيل وابتزازه للدولة.

إسرائيل من أنجح دول العالم في الدعاية الإعلامية، على الرغم من سياساتها السوداء، وتعيش دوماً في ظروف أمنية وعسكرية متوترة، ولديها من الأزمات الداخلية الخطرة ما يكفيها، مع ذلك فإنّها لا تنظر إلى الإعلام المهني الحرّ بأنّه عبء ويجب قمعه وتحجيمه، لأنّ حكوماتها قوية وليست هشّة وضعيفة!

ثمة بدهية لم يسمع عنها "البعض" تكمن في أنّ الإعلام المهني الحرّ هو أساس من أسس الاستقرار والحياة السياسية الطبيعية، وهو مصدر مهم من مصادر القوة الناعمة للدول وأنّ الحق في التعبير ليس ترفاً أو إضاعةً للوقت

أضف تعليقك