ليست مجرد سابقة قضائية
تعبّر إدانة البعض عن أزمة أخلاقية ومعرفية مركبة، إذ لم يفطن هؤلاء إلى أن الضحية أصيبت بعاهات مستديمة عبر انتزاع أسنانها بالكماشة وتقطير عينها بالكاز، ما أفقدها بصرها في إحدى عينيها، وحياكة جفونها وإطفاء أعقاب سجائر في جسدها، وقد لا تلقى حماية فعلية عقب ذلك في مجتمع ينتصر جزء كبير منه لأعراف تعيب وتحرّم إدانة الوالدين مهما ارتكبا من أخطاء.
المفجع أن الأب نجا من العقوبة بعد قيامه بفعلته النكراء لشموله بقانون العفو العام الموقت، الذي صدر سنة 2011، وما استجد في القضية هو صدور حكم بتعويض مالي قيمته 3500 دينار فقط لا غير!
يجد اختصاصيو علم النفس والدراسات الاجتماعية، حتماً، في ردود الفعل على الخبر المنشور مادة خصبة للبحث، حيث ألصق كثيرون بالفتاة تهماً شتى لمجرد تقديمها شكوى بحق والديها، وحاولوا التشكيك بوجود دوافع خفية تستحق لأجلها ما لحق بها من أذى، وغيرها من الأوصاف التي تشي باضطراب العلاقة مع الأب والسلطة عموماً، لذلك نصطدم بأي فعل خروج عليهما، ونغرق في التبرير لهما، متجاهلين أساس المشكلة ومنطلقاتها.
ثمة مظاهر عديدة تؤشر على تشوه صلاتنا بالسلطة، ومنها بلا أدنى شك العنف اللفظي الذي نلحظه في التعليقات حول الحكم الصادر، وحتى السجال الدائر حول طبيعة عمل مراكز المساعدة القانونية وغيرها من منظمات المجتمع المدني، التي تدافع عن مثل هذه الحالات، لأن دور هذه المنظمات يجسد بالضرورة إخفاق الحكومات العربية المتراكم وعلاقتها المضطربة بمواطنيها أيضاً.
لم يعد مفاجئاً، في بلداننا العربية، أن يتقدم المشهد محامون وحقوقيون وناشطون مستنكرين الخضوع لقوانين وضعية تخالف الدين ومن شأنها إفساد الأسر والمجتمعات، على حد زعمهم، بل اعتبر بعضهم الحكْم باطلاً لصدوره عن قاضية، فالقضاء لا يزال بنظرهم حكراً على الرجال!
هذه الأفكار الرجعية الظالمة لا تعكس تعدداً في الآراء وتنوعها، إنما تشير إلى تناقض حاد لمجاميع بشرية لم تتوافق بعد على بنية الدولة وشكلها وقوانينها، ونتيجة هذه الخلافات تجري التعمية على مشكلاتنا التي نعيش. القاضية الشجاعة هبة أبو جماعة قامت للمرة الأولى بتجريم الوالدين باعتبار ما قاما به هو جريمة عنف أسري، بعد سنوات طويلة لم يجرؤ خلالها قاضٍ على إصدار هكذا حكْم، مكتفين باعتبار هذه الحوادث مجرد إيذاء لا يستدعي التجريم ثم التعويض جزاءً.
الإشارة في الخبر نفسه إلى تسجيل أربع حالات أخرى فقط سينظر فيها القضاء، قريباً، لا تدلّ على عافية، فالجميع يعلم أن العنف الأسري يمارس يومياً في مئات بل آلاف العائلات، ولا يزال الخوف وغياب التوعية اللازمة يحولان دون توثيقه، غير أن إنصاف أول فتاة معنفة في سابقة قضائية سيفتح الباب بالتأكيد أمام مزيد من الأحكام، مع الالتفات إلى أنه سيرافق ذلك ارتفاع مستوى العنف، نظراً لجملة عوامل تحكم بنية المجتمع وثقافته، وقد تمت الإشارة إليها أعلاه.
والأهم من ذلك كلّه هو عدم وجود الحماية الكافية للأفراد المعنًّفين بسبب ثغرات في قانون الحماية من العنف الأسري، إضافة لعدم تفعيله في كثير من المرات، إذ لا يتم التبليغ عن أغلب القضايا فغالباً وما يظهر للعيان مردّه خلاف عائلي يقود إلى كشف حالات عنف، أو أن حجم الإيذاء والضرر يكون قد وصل إلى حدود وحشية تماماً، بحسب الوقائع المسجلة.
ينص القانون على إمكانية توقيف المشتكى عليه لفترة لا تزيد عن أسبوع، وهو لا يعد حلاً يمنع تكرار العنف، ويعطي الحق للمحكمة بإصدار أمر حماية لمدة لا تزيد عن شهر يمكن تجديده لمدة لا تزيد على 6 شهور في حالات استثنائية، وهو ما لا يتم العمل به في المحاكم، كما أن الغرامات التي تفرضها المحكمة في حال تم خرق أمر الحماية أو أحد شروطه لا تشكل رادعاً حقيقياً لوقف العنف، ولم تفعّل كذلك العديد من مواد القانون المتعلقة، ومنها تحويل الحالات إلى لجان الوفاق الأسري التي يفترض بها بذل مساعي الإصلاح والتوفيق بين أفراد الأسرة، عبر الاستعانة بذوي الخبرة والاختصاص.
العجز في تطبيق القانون يشمل إمكانية علاج الظاهرة بشكل جذري، وفق ما نصت عليه المادة 18 بما يلي "تحويل أحد أو كلا طرفي الشكوى وأفراد الأسرة إلى جلسات الإرشاد الأسري أو إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي."
بانتظار أحكام قادمة تنصف معنفين سيُثار الجدل مجدداً، وعلينا الاعتراف أن قضايا العنف الأسري هي عنوان أزمات كبرى تتصل بنظرتنا القاصرة إلى مفهوم السلطة أساساً، القائمة على ثنائية المراقبة والمعاقبة، وما يترتب عليه من مفاهيم جائرة تحكم المرأة وأدوارها، ومن فشلٍ في التنشئة حين نعتقد أن الأخلاق هي التأدب والتهذب في التعامل، ولا نقرّ في الوقت نفسه أن إحداث عاهة مستديمة في جسد أبنائنا ونفسيتهم يعد جريمة وسقوطاً أخلاقياً مدوياً.
خلاصة القول إننا لن نحل أي شكلٍ من أشكال العنف اللاحقة مثل العنف المدرسي والجامعي والمجتمعي وصولاً إلى انفلات الشارع في وجه الأنظمة ما لم نفض الالتباس القائم في علاقتنا مع السلطة، والأب بوصفه أولى تجلياتها في حياتنا، ونؤسس لعلاقة سوية لا تنتقص الحقوق، وتحترم العقل والإنسان.
- محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.