لماذا قتل الأتراك في أسطول الحرية لغزة عمدا؟

لماذا قتل الأتراك في أسطول الحرية لغزة عمدا؟
الرابط المختصر

الجريمة التي ارتكبتها اسرائيل على ظهر السفينة التركية "مرمرة" حدثت عن سبق تصور وتصميم. وهدفها احراج الحكومة التركية ووضعها أمام تناقضاتها العصية. أما إهانة الرئيس أردوغان فغاية ثانوية تعزز الهدف ذاك ولا تقوم بذاتها. وما رددته وسائل الاعلام إجمالا, عربية وغير عربية, هو تَبَنٍ ساذج, أو مقصود, للرواية الاسرائيلية: من أن الاتراك الموجودين على ظهر السفينة قاوموا بشراسة قوات الكوماندوس الاسرائيلي, واستخدموا لهذه الغاية العصي الحديد والسكاكين والبلطات التي تتوفر على ظهر السفن. وأن ذلك هو سبب اطلاق النار الحي عليهم وقتل تسعة منهم. والحقيقة أن ركاب السفينة الاخرى, اليونانية, التي كانت تقل الى جانب اليونانيين المشاركين, مناضلين من جنسيات أوروبية متعددة, قاوموا الصعود الاسرائيلي على متن سفينتهم بالمقدار نفسه من الشراسة وباستخدام الوسائل ذاتها, والقوا بالعديد من المهاجمين الى البحر, وسخروا منهم, وامتنعوا عن الخضوع الى أوامرهم. وكانت نتيجة الاشتباك أن وقع بين المناضلين جرحى وتكسرت عظام بعضهم, ذلك أن الاسرائيليين لم يستخدموا الرصاص في صدهم. وضعت خطة مقاومة القرصنة الاسرائيلية التي كانت متوقعة بشكل مشترك بين جميع السفن المشاركة في الحملة. وكانت الخطة تستند الى القانون البحري الدولي, ومن واجب قبطان أي سفينة يخفق فوقها علم دولة ان يمنع صعود أي كان على متنها, وهو لا يخضع إلا لأوامر السلطات التي تحمل السفينة علمها. وقد استمرت المفاوضات بين القوات الاسرائيلية وقباطنة تلك السفن لساعات قبل الهجوم, وكانت المقاومة التي ابداها الركاب معلنة مسبقا ومعلومة لدى الاسرائيليين, بمعنى انهم لم يفاجأوا. وكان بإمكانهم تعطيل السفن بوسائل أخرى غير الهجوم العسكري على ركابها, باستهداف المراوح مثلا كما كان يتوقع القباطنة, أو باستخدام القنابل المسيّلة للدموع للسيطرة على الركاب قبل الالتحام بهم, وهو ما لم يحدث إذ استخدمت تلك بعد الهجوم!

اذن قُتل الاتراك عمداً!!

بداية, وإذا استبقينا الرغبة الاسرائيلية بإرهاب حركات التضامن العالمية مع فلسطين, التي تزداد تنامياً وفعالية الى درجة تؤرق حكام اسرائيل وتستدعي اجتماعات متكررة للمجلس الوزاري المصغر, تارة لوضع خطة لمواجهة حملة "المقاطعة وسحب الاستثمار والعقوبات" BDS, ولقطع تدفق مبادراتها, ومنها "اسطول الحرية" عبر تخويفها بالقتل, كما حدث سابقا مع "البعثات المدنية", فثمة استسهال اسرائيلي بالمس بحياة أناس ينتمون الى مجتمع معرّف بأنه من العالم الثالث, رغم أن الاقتصاد التركي يحتل المرتبة السابعة عشرة في سلم الاقتصاد العالمي, وهو ما يشي بطبيعة تلك المقاييس والتعريفات التي لا تستند الى معايير موضوعية بل الى الشعور الغربي الاورو-أمريكي بالتفوق, ولكن هذا موضوع آخر.

ثم هناك رغبة اسرائيلية محسوبة في تركيز الاضواء على المساهمة التركية في الاسطول, بما يكاد يلخص كل المبادرة تلك بها, وهو ما يضعف من دلالتها: صحيح أن الباخرة مرمرة هي الاكبر, وأن ثلاثة أرباع المناضلين ابحروا عليها, ولكن البواخر الاخرى كانت تقل عشرات الشخصيات العالمية, من نواب أوروبيين, وكتاب واساتذة ونقابيين. ويوجد يهود مناهضون للصهيونية واسرائيل, وتحديداً ضمن السفينة السويدية, ليس كأفراد وحالات "شاذة", وإنما كجمعيات قائمة, موقفها الفاعل والمتصل يؤذي كثيراً إسرائيل. وقد تشكلت تنسيقيات كبيرة في أوروبا هي التي بادرت الى المشروع, والمساهمة النقابية من قبل نقابات كبرى, وتحديداً في ايرلندا وسكوتلندا وانجلترا, ثم في السويد وفي اليونان, تمثل نقلة نوعية لمن يعرف طبيعة الخارطة السياسية الاوروبية وكيفية اشتغالها: تلك نقابات هي في أحيان كثيرة أكبر وأهم من الاحزاب, وهي كانت سابقاً تعتبر الهستدروت رفيقتها! ولكي يصل الامر الى اتخاذها قراراً بتمويل السفن, فقد تطلب ذلك تحديداً صدمة العدوان في العام الفائت على غزة. ويمكن القول ومع الاسف, أن الاعلام العربي بمجمله قد وقع في الفخ الاسرائيلي, واشترك في خطة تلخيص مبادرة الاسطول بتركيا, وهو مجدداً إضعاف سياسي لها.

وأخيراً, وعلى تلك الاسباب, وهي كلها جديرة, نصل الى بيت القصيد: وضع الحكومة التركية أمام تناقضاتها. فتركيا عضو في حلف شمال الاطلسي, وتقيم مع إسرائيل علاقات, ليست دبلوماسية فحسب, بل اقتصادية وعسكرية متشعبة. والحكومة التركية التي يشكلها منذ عام 2002 حزب العدالة والتنمية الاسلامي, تقف أمام تحديات متعددة, أولها ذاك العائد الى نفوذ الجيش التركي, الكمالي والمتغرب, والمعتاد على التحكم بالسياسة في البلاد, علاوة على المسألة الكردية التي ما زالت متأزمة, رغم نجاح حكومات العدالة والتنمية في خفض وتيرتها. ويمكن القول أن التجربة برمتها ما زالت هشة, مع أنها أثبتت قدرة حزب اسلامي على التأقلم مع الضرورات البرغمائية للمعطيات العائدة لمجتمعه, تركيباً وإرثاً على السواء. وقد استندت النظرية الشائعة عن "الاسلام المعتدل" على تلك التجربة.

ولكن ما لم تحسب الولايات المتحدة واسرائيل حسابه هو إستحالة أن تنسخ حكومة العدالة والتنمية التركية المسلك الرسمي العربي حيال المسألة الفلسطينية! أي أن تدخل في تواطؤ مفضوح مع إسرائيل أو في عجز مخز. فذلك ينسف واحد من أساسات بنائها لنفوذها الاقليمي, وهو, هذا النفوذ والطموح إليه, يمثل مرتكزاً مهماً من مرتكزات شرعيتها. وينطبق الامر على موقفها من إيران. فعوضاً عن الدخول في صراع مع طهران, انتهجت تركيا منطق التقارب والتوسط معها, بل نجحت في ابرام "اتفاقية طهران" في منتصف الشهر الفائت, بشراكة برازيلية, مما يصعد بالطموح التركي من النفوذ الاقليمي الى العالمية! وهذا كله ما أرادت اسرائيل تحديه وتفجير تناقضاته بفعلتها تلك, وأيضاً إظهار "حدود" ما يمكن للسيد أردوغان فعله.

هناك خارطة جديدة للمواجهة من الآن وصاعداً. أي أن عناصر لدينامية جديدة تظهر وستسير وفق تفاعلات لا يمكن حصرها من الآن. وهذا إيجابي لفلسطين ولعموم المنطقة.