كورونا وإعلام الكراهية.. صحافيون أم محرّضون؟
في العام 1994، شهدت رواندا احدى اكبر الجرائم ضد الانسانية، مع تعرض ما يقارب 800.000 من اعضاء قبيلة التوتسي للقتل على ايدي مجموعات من قبيلة الهوتو. تبين أن المحرض الاكبر على الجريمة هو الاعلام. وللمرة الاولى في التاريخ، تمّت محاكمة ثلاثة صحافيين في المحكمة الجنائية الدولية، بتهمة التحريض على القتل، وجرت ادانتهم في العام 2003 الى جانب إدانة وسيلتين اعلاميتين.
لم تكن إدانة تلك الوسائل الإعلامية ولا الصحافيين ظالمة من وجهة نظر أهل المهنة. استخدم الصحافيون المدانون تعابير مثل “لا تزال هناك العديد من القبور المفتوحة يجب ملؤها”، وهذا شكل من اشكال التحريض ودعوة مباشرة للقتل. اطلق على هذه الوسائل الإعلامية لاحقا مصطلح “اعلام الكراهية”، ومن بعدها، صار هذا المصطلح مرتبطاً بمفهوم التحريض على الاذى والعنف والقتل.
وبرغم عدم وجود تعريف موحد لخطاب الكراهية، الا ان التعريف الاكثر اجماعا والمستند الى العديد من قواعد السلوك المهنية لدى الصحافيين حول العالم، هو ان خطاب الكراهية (ولو اتخذ مسميات اخرى مثل خطاب التحريض او الاساءة)، يطال كل اشكال التحريض على العنف والاذى ضد افراد او مجموعات، وتبرير الكراهية المبنية على التعصب ضد اشخاص او مجموعات، على اساس الجنسية او العرق او الدين او الاعاقة او النوع الاجتماعي او الميول الجنسية او المستوى الاقتصادي او الاجتماعي او التعليمي.
هنا، يجب التفريق بين التمييز والتنميط والوصم الاجتماعي والقدح والذم وبين خطاب الكراهية. ليس كل تنميط او تمييز او قدح وذم هو خطاب كراهية، ولكن كل خطاب كراهية يستند الى التنميط والتمييز والتقليل من شأن اشخاص او مجموعات وفق الاسس المذكورة اعلاه، إنما يحمل في طياته قدحا وذما.
واللافت للإنتباه، أنه مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والاعلام الرقمي، تعاظمت خطابات الكراهية والتحريض وانتشرت في السنوات الاخيرة العديد من الدعوات إلى قوننة نشر وبث اي خطاب اعلامي يرقى الى التحريض على الاذى النفسي او الجسدي، ومعها كثرت الدعوات إلى الوسائل الاعلامية من أجل التنظيم الذاتي وعدم التسامح في بث او نشر ما قد يؤدي الى الاذى الجسدي او المعنوي لافراد او مجموعات.
ما يعنينا هنا ليس الضوابط التنظيمية، سواء أكانت فوقية، اي مفروضة من السلطات الرسمية، أم عبارة عن صيغ تنظيمية داخل المؤسسات الاعلامية وبين بعضها البعض. ما يعنينا هنا هو قدرة الصحافي/ة على تحديد خطاب الكراهية والتصدي لما يمثله من اساءة وتحريض.
مع انتشار فيروس كورونا، اصبح الفيروس بحد ذاته اداة لتعميم الكراهية على مستوى البلدان والافراد والمجموعات الاثنية والعرقية والدينية وصولا الى استخدامه مادة خطابية تحريضية تجاه الحيوانات الاليفة، بدليل ما شهدته العديد من المدن حول العالم من رمي لحيوانات اليفة في الملاجىء الخاصة او على الطرقات حيث تم قتل العديد منها اما رميا بالرصاص او عبر دس السم في الطعام، مثلما هو الحال في كل من الاردن ولبنان.
تحّمل المواطنون في العديد من بلدان جنوب شرق اسيا تبعات مقولة انهم يتحملون المسؤولية عن انتشار الفيروس. في الهند مثلا، تم استغلال الفيروس لشن حملات تحريضية ضد المسلمين وتحمليهم دون غيرهم مسؤولية تفشي الفيروس في البلاد. ساهمت وسائل اعلامية هندية في تعميم هذه المقولة عبر تكرار رسالة الحكومة المتكررة والتي تركز على حالات تم اكتشافها داخل تجمع للمسلمين في احدى المدن الهندية. في باكستان، كما في العديد من الدول العربية، تحولت إيران الى نقطة تركيز العديد من وسائل الاعلام بوصفها مصدر الوباء، الأمر الذي تسبب بحملات تحريض شملت الاشخاص المنتمين للطائفة الشيعية في تلك البلدان وخارجها. في لبنان، استخدم الفيروس اداة للتحريض على الفلسطينين عبر كاريكاتور في ذكرى الحرب الاهلية اللبنانية يساوي الفيروس بالشخصية الوطنية الفلسطينية. في الولايات المتحدة، استخدم الرئيس الاميركي الفيروس لبث خطاب كراهية تحريضي ضد الصين، حتى يتجنب تحمل المسؤولية المباشرة عن تلكؤ ادارته في التعاطي مع الازمة.
قد يقول البعض ان من بين مهمات الصحافي/ة أن ينقل المعلومة ولا يخفيها، فكيف اذا وردت على لسان مسؤول رسمي؟ هذا القول يبدو للوهلة الأولى مشروعا ولكن عندما انقل معلومة عليّ ان اضعها في سياقها العلمي والمهني، وعندما انقل خطابا لمسؤول يستبطن تحريضا واساءة، عليّ ان اقول ان الخطاب تضمن اساءة وتحريضا، واذا لزم الامر، وكان التحريض مباشرا، عليّ ان أُطلق عليه صفة خطاب الكراهية.
اذا كان الخطاب المذكور، يحمل مقولات او معلومات ويدعي الحقيقة، عليّ كصحافي/ة ان اتحقق من المعلومة/المقولة وان أقدم ما قالته الشخصية العامة ولكن مع تذييلها بالمعلومات الصحيحة بعد أن أتولى التدقيق فيها. ان الدقة تجنبنا الوقوع في فخ تعميم خطاب الكراهية.
لقد تبين ان المعلومات الكاذبة والملفقة عن الفيروس والتي تطال اشخاصا او مجموعات محددة، قد تسببت بنشر خطاب كريه، ساهم في تعميمه زملاء/زميلات وأدى الى الحاق الاذى بهؤلاء الاشخاص والمجموعات. لذلك، يمكن القول إن مسؤولية الصحافي/ة ليست محصورة بما ينشر له في المؤسسات التي يعمل فيها، بل يشمل ذلك ما ينشره او يبثه عبر صفحات التواصل الاجتماعي. يستوجب ذلك منا التدقيق والتحقق وتحديد ما اذا كان النص الذي انوي نشره او مشاركته يتضمن اساءة أو تحريضا على الاذى. إن من شأن التدقيق الحيلولة دون وقوعنا في محظور المساهمة في نشر وانتشار خطاب الكراهية.
إن بعض الكلام التنميطي قد لا يقيسه البعض بما ينتج عنه. هذا الكلام يمكن أن يتحول تحريضا يترجم عنفاً على ارض الواقع في لحظات احتقان سياسية او دينية او مجتمعية، وبالتالي يكون سبباً في سقوط ضحايا ابرياء. على سبيل المثال لا الحصر، يمكن لكلام تنميطي ولو كان غير مقصود، أو أنه اتى في سياق التهكم والسخرية، كما هو الحال مع وصم النساء وافعالهن بالكورونا، أن يعطي، بطريقة غير مباشرة، المعنِف الاسري مبررا اضافيا للتمادي في عنفه، فتأتي العواقب اذى مبرحاً تتعرض له النساء داخل منازلهن.
لا يجب ولا يجوز أن يحاول البعض فهم أو تفسير ما أقوله كتابة، على أنه يتعارض وحرية الرأي والتعبير، التي هي حق مقدس لا يجب التنازل عنه، ولكن يكفي أن نستشهد بقرار المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان حتى نفهم معنى هذا الحرص ولو المبالغ به. هذه المحكمة، ومع اقرارها بحق الجميع في التعبير بكافة الاشكال، اقرت انه ومن حيث المبدأ، وعند الضرورة، لا يتعارض مبدأ حماية حرية وحق التعبير مع منع بث او نشر مواد تحرض او تعمم او تبرر لأي فعل يصب في خانة الكراهية المستندة الى التعصب باشكاله كافة.
هي دعوة حتى يكون المنع الذي تقر به المحكمة الاوروبية، منعا نابعا من مسؤولية ذاتية. مسؤولية أخلاقية ومجتمعية. اهم عناصرها التحلي بالدقة والتحقق من المعلومة قبل نشرها حتى لا تستغل خارج سياقها وتنتج خطابا مسيئا قد يتسبب بالأذى لافراد او مجموعات بطريقة مباشرة او غير مباشرة.
من حسنات هذه اللحظة التاريخية التي تمر بها البشرية، أنه أصبح بالامكان البدء باعداد قاموس خاص بالتعابير التي انتشرت مع انتشار جائحة كورونا وتعكس خطاب الكراهية، وفي مقدمها وصم احدهم او احداهن بالكورونا ومشتقاتها اللغوية، ووصم الفيروس بالاصفر، او بالصيني، ووصف مناطق وبلدان بحالها بالموبؤة، وتوصيف مناطق انتشر فيها الوباء على انها بؤرة للفيروس…
لنعمل على الا تطول القائمة وأن نتحلى بانسانية عالية، اذ ان انتشار هذا النوع من التوصيفات يمنع العديد من المواطنين في العديد من البلدان وتحديدا في عالمنا العربي من الخضوع للفحص في حال توفره او الاعلان عن الاصابة خوفا من الاقصاء. الاذى واقع هنا ولكنه غير مباشر وهو فعل خطاب يتسم بالكراهية.
* سوريا 180