كلود ليفي شتراوس والمنهج البنيوي

 وُلد الفيلسوف الفرنسي كلود ليفي شتراوس ( 1908 _ 2009 ) بمدينة بروكسل في بلجيكا ، وتُوُفِّيَ بمدينة باريس في فرنسا .

     نشأ في جو مليء بالفنون والثقافة والأدب ، فهو ابن فنان وحفيد حاخام . في عام 1914 ، وخلال نشوب الحرب العالمية الأولى ، انتقل مع أبويه إلى الإقامة في فرساي . ويبدو أنه كان طفلًا مُتَوَحِّدًا ، يميل إلى التفكير والتأمل الذاتي والقراءة . حيث اعتاد أن يصرف وقته في السير وحيدًا، يتأمل الطبيعة ، ويلتقط منها أغراضًا مختلفة من الأحجار والنباتات التي تُفيد في صناعة الفسيفساء، ويرى إن هذه العادات كانت هي الأصل في اهتمامه العميق بالجيولوجيا، مِمَّا كان له تأثيره اللاحق في منهجه البُنيوي .

     في الفترة ( 1927 _ 1932 ) ، كان شتراوس طالبًا في جامعة باريس ، حيث حاز على إجازة في القانون والفلسفة ، واشتملت قراءاته في هذه المرحلة على أعلام المدرسة الفرنسية في علم الاجتماع. لكنه لَم يدرس العلوم إلا في مرحلة متأخرة . وبعد أن درس القانون لفترة قصيرة في جامعة باريس ، ابتدأ العمل مُدَرِّسًا في الليسيه . لكنه سُرعان ما تركه ليرتحل إلى البرازيل عام 1934 ، بعد أن عُرض عليه منصب أستاذ لعلم الاجتماع في جامعة ساوباولو ، إذ رأى في هذا المنصب فرصة للقيام برحلات للدرس الميداني في أدغال البرازيل . 

     وفي عام 1939 ، استقالَ من جامعة ساوباولو ، وحصل على منحة من الحكومة الفرنسية للقيام ببعثة دراسية أوسع نطاقًا إلى وسط البرازيل ، حيث قام بدراسة عدد من القبائل البدائية، فكانت هذه الدراسة مُمَهِّدة لأفكاره التي تطورت فيما بعد . وفي عام 1940 ، عادَ إلى فرنسا للخدمة العسكرية ، ولكنه تركها ورحل إلى الولايات المتحدة بعد سقوط باريس عام 1941 ، حيث تولى في نيويورك منصبًا في الكلية الجديدة للبحث الاجتماعي عام 1943 . وقد أتاحت له فترة الإقامة هناك الفرصة لكتابة أطروحته في الدكتوراة " البُنى الأولية للقرابة ". وإقامة علاقة صداقة مع رومان ياكوبسون الذي قاده إلى الاهتمام بعلم اللغة البُنيوي،فأسهمَ بمقال عن" التحليل البنيوي في علم اللغة والأنثروبولوجيا " ، نشره عام 1945 في مجلة حَلْقة نيويورك . وفي الفترة   ( 1946_ 1947 ) عمل في الملحق الثقافي في الولايات المتحدة . إلا أنه عاد إلى فرنسا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، إذ لَم تعرض عليه الكلية الجديدة وظيفة ثابتة .

     في عام 1950 ، أصبح مدير الدراسات في المعهد التطبيقي للدراسات العليا في جامعة باريس ( مختبر الأنثروبولوجيا الاجتماعية ) . وفي هذا العام أيضًا سافر إلى باكستان الشرقية للقيام برحلة بحث ميداني. وقد تَمَّ اختياره لكرسي الأنثروبولوجيا الاجتماعية في الكوليج دو فرانس(1959). وفي 1964 نال وسام جَوقة الشرف . وفي هذه المدة من حياته وما بعدها ، ألَّف شتراوس مجموعة من المؤلفات، وكتب العديد من المقالات التي نشرها في المجلات العالمية، والتي ضمَّها فيما بعد إلى مؤلفاته ، حيث تناول فيها دراسة الكثير من الظواهر وَفْق المنهج البنيوي .

     يُعَدُّ شتراوس أهم البنيويين المعاصرين، وأكثرهم شهرة، بل إن البنيوية ترتبط باسمه ارتباطًا مباشرًا ، وهذا ما جعل الباحثين يُطلِقون عليه عدد من الألقاب التي تُشير إلى مدى تأثيره وتأثره بالبنيويين والبنيوية عمومًا ، فَلُقِّبَ بعميد البنائيين، أو شيخ البنيويين، أو البُنيوي الأول، أو رائد البنيوية المعاصرة ، أو أكبر مهندسي الفكر في العصر الحديث ... إلخ .

     وهذا الاهتمام مِن قِبَل الباحثين به ، يرجع إلى استعماله المنهج البنيوي في كافة المجالات التي تطرَّق إليها بالبحث ، وخصوصًا في مجال الأنثروبولوجيا ، وتمسُّكه بهذا المنهج ، فهو لَم يحاول كغيره من البنيويين أن يتجاوز هذا المنهج في دراساته وبحوثه ، أو أن يرفض إطلاق صفة البنيوي عليه كما فعل غَيره .

     إن لنشأة شتراوس وتربيته وإعداده العلمي أثرًا كبيرًا في اتساع أُفقه ، وتنوُّع اهتماماته والمصادر التي استلهم منها منهجه البنيوي. فذكرياته عن الطبيعة جعلته قريبًا من علم الجيولوجيا، وعشقه للموسيقى والفن كان تأثيره واضحًا في بحوثه ودراساته ، وخصوصًا فيما يتعلق بالأساطير ، فضلًا عن دراسته للفلسفة والقانون ، واتجاهه الاجتماعي والأنثروبولوجي ، كل ذلك جعله يبحث عن منهج جديد في البحث قادر على معالجة كافة المجالات ، وهو المنهج البنيوي ، حَسَب اعتقاد شتراوس ، ذلك المنهج الذي يبحث عن الحقيقة التي تكمن وراء الوقائع الملاحَظة .

     اشتق شتراوس المُقارَبة البنيوية من عِلم اللغة البنيوي، وهو عِلم يدرس اللغات من خلال بُنية أصواتها وكلماتها . واستخدم المذهب البنيوي لدراسة العلاقات العائلية وأساطير الهنود الحمر، في الشمال والجنوب الأمريكي، وحتى طُرق الطهي، والأساطير عبر العالَم . وهي بالنسبة إليه تحولاتٌ من أسطورة إلى أخرى. فأساطير المجتمعات في هذا العالَم قد تبدو مختلفة، لكن إذا كان للأساطير بُنية واحدة ، فإنها يمكن بالفعل أن تُعبِّر عن الشيء نَفْسه .

     مِن أبرز مؤلفاته : العِرق والتاريخ ( 1952 ) . مداريات حزينة ( 1955 ) . الفكر البري ( 1962 ) . الأسطورة والمعنى ( 1978 ) . طريق الأقنعة ( 1979 ) .

 

أضف تعليقك