كآبة حادة

كآبة حادة
الرابط المختصر

مصاب انا بكآبة حادة هذه الايام ، وقد انضممت الى مليون ونصف مليون اردني مصابين بالكآبة وفقا للاحصائيات الرسمية ، وتعرفون يا رعاكم الله انها احصائيات مخّففة ، ولا بد ان العدد اكبر.

اصحو صباح الجمعة على صوت ادوات عمال البناء في "الورشة" القريبة من بيتي ، فلا جمعة عندهم ، ولا ما يحزنون ، فيقرعون رأسي طوال يوم الجمعة بأصوات النقر والحفر ، واتمنى لو افتح حوارا معهم فأتذكر الازميل والشاكوش ، والفأس واسياخ الحديد ، فاختصر الشر ، لان المعركة غير متكافئة اساساً ، وانا مرهف الاحساس ولا احتمل حجرا طائشاً ، ولا مسماراً في قطعة خشب.

اسكن الى جانب غابة شجرية هربت اليها ، لاني لا احتمل الضجيج ، واحتمل كل شيء عدا "الصوت المرتفع" الذي يقتلني بطريقة غير مفهومة ، وفي احيان كثيرة اصحو على صوت "الغراب الهندي" الذي يزعق ومعه قطعان من الغربان ، فاسأل الله اللطف ، من هذا النذير ، واسأل من اين جاءت هذه الغربان ، ولماذا احتلت كل مكان ، بعد ان جاءت الى البلد عبر السفن التي ترسو في العقبة ، ولم نكافحها ، فباتت في كل مكان بلونها القبيح ، ودمها الثقيل.

تدير محرك سيارتك لتذهب الى عملك ، فتقلب الاذاعات ، فلا تسمع على "الريق" الا تقريرا عن نسبة السرطان في الاردن ، او اغنية هادرة تهدد وتتوعد عدواً غير محدد بفصفصة عظامه وخلع عيونه ، فتتوتر اعصابك ، وتشك ان الحرب قد نشبت للتو ، فتهرب الى اذاعة ثالثة ، فتسمع اغنية عاطفية لمطربة من الدرجة العاشرة تتمنى ان تعيش مع حبيبها في جهنم ، فتتشهد من هذا الصباح ، فترتحل الى اذاعة اخرى فتسمع مذيعها بصوته الجهوري يخبرك ان عدد جرحى حوادث السير في الاردن وصل الى ثمانية عشر الف جريح ، سنويا ، فتشك انك في "بغداد" او "قندهار".

احل في الصحيفة ، اقلب الصحف والمواقع الالكترونية ، فأقرأ عن مشادة بين محامْ وقاضْ ، واطلاق رصاص من دكتور في جامعة على عميدة كلية ، ومشادة جماعية في الحصن ، واب يضرب زوجته واطفاله ، واخ يقتل شقيقته ، وفصل طلبة من الجامعات ، وفصل اساتذة من جامعات اخرى ، وطفل لقيط تم اكتشافه مؤخرا ، فتهرب الى صفحة الحظ ، فتكتشف ان من يكتبها بلا حظ ، اصلا ، لانه لو كان صاحب حظ ، لاشتغل في وظيفة اخرى ، غير هذه الوظيفة.

تهرب الى صديق ، فيبدأ بالتذمر من فواتير الماء والكهرباء وايجار المنزل ، ويبدأ بشتم سيارات المغتربين التي بدأت تتزايد مع الصيف ، معتبرا انهم بدأوا بالتوافد وخنق شرايين عمان ، ويزيد على شعره بيتا فيقول انهم يمضون وقتهم في الانفاق على اكل الكنافة وشراء الحمص ، ثم يسترسل بشتم كائنات مجهولة ، وكائنات معروفة ، وينهي حديثه بشتم نفسه وحماته وخالته الخامسة عشرة ، فتخرج من عنده زاحفاً وكأنك فررت لتوك من الجهاد ، او من مرض السكري الذي ينهش صحة مليونين اخرين.

تنزوي في المساء لتقرأ كتابا مملا تم تأليفه في يومين ، فترميه من يدك ، وتصفن وتسرح الى ماشاء الله ، ومعك ستة ملايين من الصافنين والصافنات ، والسارحين والسارحات ، وتبسمل وتحوقل ، وتتشهد وتستغفر.

تقرر تلك الليلة ان تنام مبكرا على غير عادتك ، وما ان تبدأ في الاستغراق في النوم ، حتى تبدأ صليات الرصاص فوق رأسك ، لان فلانا انهى الثانوية العامة واحضر معدلا مقداره ثمانية وخمسون ، ولو كان متفوقا لما احتفل بالرصاص المصمم للذبح والقتل ، لان المتفوق يكون متضايقا على عشر او عشرين ، اما المتوقع رسوبه فيحتفل لانه جلب نتيجة غير متوقعة ، ومع صليات الرصاص ، مفرقعات ممنوعة ، وكأنك على مشارف حرب اخرى.

تبدأ صباحك بأغان تبشرك بالحرب ، وتنهي يومك بصليات رصاص تبشرك بحرب اخرى ، ثم يسألونك عن سبب كآبتك.

أضف تعليقك