قوننة تكميم الأفواه
يبدو أن الحكومة تعتقد أن اتباع سياسة الإسكات ستُغَير من واقع الأزمة السياسية الاقتصادية في الأردن على أساس فرضية خيالية بأن خفوت الأصوات ينبئ باختفاء المعارضة.
هذه ليست سياسة فاشلة فحسب بل حيلة المُفلسين.
أولاً ، جاء قرار إحالة محطة جوسات ، والمشاركين في برنامج حواري الى القضاء، وثانياً جاءت التعديلات على قانون المطبوعات الالكترونية لتؤكد الشكوك أن هناك توجهاً لإعادة البلاد إلى أجواء الأحكام العرفية – من خلال قوننة العملية لكي تناسب ادعاءات التمسك بالإصلاح خاصة أمام الغرب.
التوجه ليس بجديد؛ فقد شهدنا تحويلات بالجملة لناشطين إلى محكمة أمن الدولة، في محاولة لتجريم المعارضة السياسية وترهيب الناس من المشاركة أو من التعبير عن الرأي.
في حالة جوسات ، لم يتم اللجوء إلى محكمة أمن الدولة، بل إلى القضاء المدني، في خطوة ذكية ، من حيث حرصها على قانونية الإجراء ولكن قصيرة النظر ، من حيث المضمون والأبعاد.
لأنه بالنهاية لا يمكن علاج ارتفاع سقف الاتهامات أو الشعارات بالعقاب القانوني أو غير القانوني بل بمعالجة جذور الأزمة، لكن يبدو أنه لا يوجد توجه بالتعامل مع التوتر المتفاقم إلا بالتجاهل المستمر، وتضليل النفس بأن المشكلة تتمثل في جماعات أو أفراد يتوجب قمعها وتهميشها.
المكتوب واضح من عنوانه، فقد حرصت الحكومة على الإسراع بالتعديلات على قانون المطبوعات وإحالتها إلى مجلس النواب، فيما لا تولي قوانين أخرى مثل قانون الضمان الاجتماعي أي أهمية، إذ أن إسكات المعارضة أهم من حقوق العمال في سلم أولويات القائمين على صناعة القرار ومن حولهم.
لا يعني ذلك أن المواقع الإلكترونية لا تعاني من مشاكل وفجوات مهنية جدية،وأحياناً فاضحة، ولكن تم دس السم بالدسم في التعديلات لإعطاء الحكومة والحكومات المقبلة القدرة على السيطرة على ما يقال وينشر على الفضاء الالكتروني ، وإن كان في ذلك معركة خاسرة لا تقدر ولم تقدر عليها حكومات ديكتاتورية شمولية ولا حتى الولايات المتحدة نفسها.
من البديهي القول ان الأخطاء والممارسات غير المهنية غير مقبولة ، بل ومضرة جداً في بناء مجتمع تعددي ديمقراطي، ولكن التعديلات احتوت آليات قانونية جديدة تتيح للحكومة وأي مواطن اللجوء إلى قضاء متخصص وتكفل الردع التدريجي للأخبار الكاذبة والادعاءات غير الدقيقة أو المسيئة بغير حق سواء ضد أفراد أو مؤسسات.
أما مسألة محاولة فرض السيطرة الكاملة على ما ينشر على المواقع الالكترونية، فتدخل في باب تكميم الأفواه ومصادرة حقوق التعبير والنشر - أي إدخال الأردن في معركة خاسرة، خاصة أن معظم المواقع ، كما أشار تقرير لمركز حماية وحرية الصحافيين أولاً تصدر من خارج الأردن وثانياً لديها صفحات على الفيسبوك تستطيع من خلالها تجاوز أي قرار حجب حكومي لها.
غياب المهنية في أخبار وتعليقات بعض المواقع الالكترونية في الأردن له جانب آخر تتجاهله الجهات الرسمية، ليس له علاقة بالأخطاء ولا بالضعف المهني لبعض أو لكثير من الصحافيين في هذا المجال- وهي مشكلة أيضا نجدها في الصحف المكتوبة.
إن أسوأ ما حدث للإعلام في الأردن، وهو أشد وضوحاً في المطبوعات الالكترونية، هو دخول جهات متنفذة رسمية وغير رسمية على خط الصحافة - مما جعل الكثير من الأخبار والتعليقات عبارة عن تصفية حسابات بين جهات متنفذة ضد بعضها أو ضد أعدائها السياسيين ومنافسيها الماليين.
وقد وصلت هذه الظاهرة الذروة في سنوات معينة من تداخل الإعلام بالأمن - حيث أصبحت جهة قوية ومعروفة هي المصدر الأساس للمعلومات والتحليل.
أي أن جزءا من إفساد الإعلام وتقويض نزاهة الإعلام جرى تحت إشراف جهات رسمية إلى أن فلتت الأمور وأصبح ليس في قدرة جهة واحدة على التحكم بالمعلومات والمحتوى.
ونحن الآن ندفع الثمن ، والأدهى أن تسارع الحكومة في التدخل، ليس بهدف الحفاظ على النزاهة المهنية، بل لأن الأمور لم تعد تحت سيطرة جهة واحدة، فالمطلوب الآن فرض "إجماع قسري" تحضيراً لمرحلة ما بعد وأد الاصلاح .
العرب اليوم