قانون انتخاب على نسق "دمية العروسة" (1/2)
يشبه قانون الانتخاب المؤقت "دمية العروسة" التي كانت تحيكها العائلات الفقيرة من مكانس القش الأرضية لإرضاء تطلعات أطفالهم نحو اللهو في غياب قدرتها على شراء الأصيل.
فالصغار يلهون بهذه البدائل اليدوية, لأن مستوى إدراكهم خلال هذه المرحلة لم يصل حد النضوج. لكن حين يستكشفون العالم من حولهم يدرك الأطفال الطامة الكبرى ويتقبلون على مضض أن هذه القطعة "الجميلة" ليست مجسما حقيقيا ولا تستطيع التفاعل مع الآخر, وحتى إنجاب أطفال. فهي جسد مصنوع من قش, بلا روح!
هكذا حال قانون الانتخاب الذي أقر في أجواء تهليل رسمي وتغييب لرأي الغالبية الصامتة المصدومة من هلّيلة ما سمي ب¯ "الصوت الواحد في الدائرة الواحدة لمقعد واحد".
فهو في أحسن الحالات تطوير طفيف على آلية الصوت الواحد في الدائرة المتكاملة المعمول به منذ 1993 لتكسير نفوذ الإسلاميين عشية توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل. لكنه لن يساعد على خروج البلاد من عنق الزجاجة ووقف حال التراجع السياسي والديمقراطي. كذلك لن ينجح في إحداث توازن بين فئات من الشعب تريد وصول نواب خدمات, قصر يرفع برنامج حداثة في غياب توافق وطني حول شكل الأردن وهويته وحكومة تحاول التوفيق بين مجلس نيابي محافظ يستبعد أن يضم نوابا من العيار السياسي قادرين على التعاون مع ممثلي الثقل العشائري ليأخذوا عن الدولة "كتفا ويتحملوا جزءا من المسؤولية السياسية". ففي غياب مجلس سياسي يخدم كمنبر للحوار الوطني تدخل جهات أخرى على الخط لملء الفراغ مثل النقابات, المعارضة, الإعلام, ومؤسسات المجتمع المدني. ويضيع مشروع الدولة بمجتمع يضمن الأمن والاستقرار.
القانون الذي يدعمه تيار محافظ يهيمن على مراكز اتخاذ القرار, سيصب مرة أخرى لمصلحة مرشحي العشيرة, الإخوان المسلمين, المال السياسي وبعض الوجوه الجماهيرية القادرة على حشد المقترعين في مناطق جغرافية مغلقة. السبب في ذلك أن النظام المبتكر يغلق كل دائرة على ناخبيها فقط لاختيار مرشح وحيد لكرسي في دوائر وهمية موجودة على الورق. لذلك لن يكون هناك تأثير لغالبية الأحزاب والبرامج السياسية أو حتى الانتخابية. وسيستفيد التيار الإسلامي القادر على "تجيير" الأصوات وترحيلها بين الدوائر الفرعية لمساندة مرشحيهم ومن يحمل فكرهم, أو لإسقاط خصومهم. وستستمر سيادة منطق نائب الخدمات, كما لن تنفع مدونة السلوك التي ستكتبها الحكومة لضبط إيقاع العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. وسيتواصل مسلسل الأعطيات والابتزاز بالقطعة سيما وأن القانون الجديد حصر النائب بما يشبه مختار لدائرة ضيقة يحتاج لدعم قواعده من باب توفير الخدمات.
الأسوأ هذه المرة, وبخلاف التجارب السابقة, لن تتمكن الدولة من توقع الفائزين في الانتخابات المقبلة إلا في بعض الدوائر المعروفة.
فكيف ستترتب العلاقة بين الطرفين, وبيد من ستكون مفاتيح المجلس القادم?.
في المحصلة سنكتشف بعد الاقتراع هذا الخريف بأن القانون يشكل نكسة أخرى تحول دون مأسسة الإصلاح السياسي عبر بوابة البرلمان.
الحكومة لا بد تدرك ذلك. لكن لا خيارات أمامها سوى التحدث عن انجاز غير مسبوق يعكس "الوجه المشرق للديمقراطية الأردنية". يساعدها في عملية التسويق القائمة على تغييب الرأي الآخر ماكنة "الإعلام المرعوب" وما يسمى بكتاب "التدخل السريع". فغالبية وسائل الإعلام لم تتوقف عن لعبة حشد التأييد الشعبي والتهليل للقانون والتركيز على ايجابياته بما فيها مضاعفة مقاعد الكوتا النسائية وزيادة أربعة مقاعد في دوائر ذات كثافة سكانية عالية وتحسين الإجراءات الشكلية, بما يضمن- في حال صدقت النوايا, عملية انتخابية عادلة ونزيهة. لكنها ستأتي بمجلس جديد يشبه الخامس عشر, الأكثر طوعا منذ .1989
وهنا يطل سؤال مشروع: لماذا حل المجلس على نحو مفاجئ قبل شهور, وبدون إعطاء أي أسباب مقنعة. التسريبات الرسمية لامت المجلس المنحل على التمرد ومعارضة قوانين التحديث بعد ان استأسد أعضاؤه عقب إزاحة الغطاء الأمني الذي كان يتحكم بمفاتيحه قبل عام ونصف?
وكيف يحل مجلس بدون التخطيط للمرحلة القادمة وتحديد الهدف والوسيلة?
رئيس الوزراء والمطبخ الوزاري الذي هندس ميلاد القانون يشعرون بسعادة غامرة.
يصر الرئيس ووزراؤه في أحاديثهم العلنية ب¯أن التشريع الأخير"سيشكل نقلة نوعية على طريق الإصلاح وحافل بالانجازات". يتحدثون عن الجوانب المشرقة المتعلقة بشكليات العملية الانتخابية.
لكن مختلف مكونات الدولة الأردنية, بما فيها السلطة التنفيذية, ستكتشف حجم المأزق عند الانتهاء من "العرس الديمقراطي".
فالأمور تقاس بالنتائج على الأرض لا من خلال النظرية المثالية الموجودة في مخيلة مؤلفي القانون. والنتيجة المتوقعة مزيد من الانقسام المجتمعي أفقيا وعموديا, تشرذم مقلق على وقع تنامي أشكال وأنواع العصبيات المدمرة بعد الابتعاد عن تشخيص المرض الذي بات ينخر جسم عقد اجتماعي عفا عليه الزمن بفعل تسارع التحولات الاقتصادية والاجتماعية, بخاصة خلال السنوات الأخيرة مع تراجع مفهوم "الدولة الريعية" لمصلحة اقتصاد السوق.
كان من المؤمل أن تدرك مراكز صناعة القرار حجم وعمق الأزمة وتشرع في إصلاح سياسي تدريجي ذي مضمون لاحتواء مكونات المجتمع من مختلف الأصول والمنابت تحت جناحي الدولة طبقا للمادة (6) من الدستور. روح تلك المادة تعطي كل مواطن صوتا له أثر ووزن متساويان في تحديد طبيعة وشكل المجلس القادم. ومن شأن تفعيلها إعادة ترميم الثقة الشعبية حيال جدية الإرادة السياسية بالسير في عملية تحول ديمقراطي لصيانة أمن الأردن واستقراره بعيدا عن شعارات تطلق دوريا دون أي التزام بالمضمون .
غالبية الوزراء الذين تجشّموا عناء الظهور في مؤتمرات صحافية أو التحدث للناس عبر الإعلام المحلي والعربي لم يكونوا موفقين عند الدخول في تفاصيل "الانجاز" والتعليق على النقاط الجوهرية التي يثيرها السائل? خلف الأبواب المغلقة تقبع غالبية وزارية غير راضية على طريقة تصنيع القانون.
مهما وضعت مساحيق التجميل على القانون المؤقت, لا يمكن إقناع الرأي العام المحبط بأن الانتصار الوحيد هو شكل التعديلات التي أدخلت على الإجراءات المرافقة لعملية الاقتراع لضمان قدر اكبر من النزاهة والشفافية أمام الداخل والخارج. والعرس الديمقراطي لن يأتي من باب الإجراءات التي تعد من المسلمات في أي نظام انتخابي يراعي مبادئ الديمقراطية والحاكمية الرشيدة. وسيضطر الحاكم والمحكوم للتعايش أربع سنوات قادمة مع نتائج هذا القانون: مع تركيبة مجلس سادس عشر لن يتغير كثيرا عن سلفه.
وستضطر الحكومة الحالية التي أعلنت الحرب على ما تسميه مكتسبات حصل عليها النواب سابقا, أو أي حكومة جديدة, للقبول بأي ثمن ب¯"النقلة النوعية" في أداء المجلس الرقابي والتشريعي, والتي افترضت مسبقا أن القانون الجديد سيحققها? فكيف سيتم التعامل الرسمي مع مجلس يتوقع أن يضم, في حال تحققت النزاهة والعدالة, 24 إسلاميا و10 مستقلين يحملون توجهات التيار الإسلامي?
الحكومة تعلن أن على المجلس القادم ممارسة حقه التشريعي بديمقراطية في إطار فصل السلطات. فهل ستقبل نتيجة ذلك في حال قرر المجلس عدم منح الثقة للحكومة? أو رفض إقرار قانون الموازنة كما فعل المجلس الخامس عشر? وماذا ستفعل إذا رفض المجلس إقرار غالبية قوانين مؤقتة إشكالية مثل قانون الأحوال الشخصية وحفز الاستثمار.
أفضل ما تستطيع الحكومة فعله اليوم هو العمل على رفع نسب الاقتراع للحد من الأصوات المهدورة من خلال رسائل اتصال مقنعة تضمن نزاهة الإجراءات الانتخابية.
فلا تلومنّ المجلس القادم إن حاول أن يعبر عن رؤيته لما يعتقد أنها مصلحة الوطن!! فخدمة أجندة الوطن كانت تتطلب بالضرورة الابتعاد تدريجيا عن دروس التخلف التي ورثناها من قانون الصوت الذي خلق فراغا سياسيا لمصلحة العصبية, الجهوية والاقليمية في مجتمع مقسوم تتسع فيه سلة الإحباطات وممارسات العنف بين المواطنين ورموز تمثل هيبة الدولة وسيادتها, مؤسسات دستورية معطلة وإصلاح مؤجل منذ أكثر من 17 عاما.
السبب الرئيسي يكمن في غياب إرادة سياسية حقيقية ورغبة في تغييب مبدأ المساءلة والمراقبة التي قد تعطّل الأجندات الشخصية لغالبية من يجلس على كراسي المسؤولية.
ماذا فعلنا إذن? فضّلنا أن نعالج الخطأ بخطأ آخر بدلا من سن قانون رشيد. صار حالنا كمن يركب سيارة قديمة مهلهلة حاول تلميع هيكلها الخارجي بالطلاء, لكنّه أبقى المحرك بدون صيانة يأكله الصدأ. وعندما سارت على الطريق السريعة لم تستطع مجاراة المركبات الحديثة فعطلتها وتعطلت.
..وتبقى دمية الخيش اليدوية أداة لتلهية الأطفال عن التفكير "خارج الصندوق".0
العرب اليوم