فُرجة ببلاش
كنت ضيفاً منذ فترة على أحد البرامج الحوارية في إحدى القنوات، وظننت حينما قبلت الدعوة أنني سأحاور طرفاً واحداً هو الضيف الذي يمثّل وجهة النظر المخالفة، فإذا بي أجد الشخص الذي يتولى تقديم البرنامج طرفاً في الحوار يتبنى وجهة نظر مسبقة وليتها علمية بل سفصطائية لا تمت للمهنية الإعلامية بصلة. أكثر ما أدهشني في الحوار أن الضيوف المخالفين في وجهة النظر كانوا أكثر عقلانيةً واتزاناً ممن يفترض به الوقوف على مسافة واحدة من المتحاورين.
بدأ اللقاء بتقرير موّجه وإيحائي من الطراز الأول يضرب بعرض الحائط كل ما تناضل من أجله حركة حقوق الإنسان وحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة من ترسيخ لمفاهيم المساواة والدمج واستخدام القوالب الإعلامية غير النمطية التي تنأى عن استدراج الشفقة واستثارة المشاعر من خلال الموسيقى الجنائزية أو الكلمات "التسوّليّة" التي كرستها سلسلة من الدراما السينامائية والتلفزيونية، ناهيك عن جملة من الأمثال الشعبية المتخلفة التي تلصق كل ما هو سلبي بالإعاقة وتتخذ منها منطلقاً لرسم صورة الواقع المرير سواءً كان اقتصادياً أو اجتماعياً أو سياسياً.
لم يتطلب الأمر جهداً كبيراً لبيان سطحية الطرح واهتراء المنطلقات التي بادر من يدير الحوار باستخدامها لتعكس وجهة نظره المتعصبة بدافع استرضاء من أوحى له بما قام به، حيث كانت بعض الأسئلة تصلح لأن تكون نكتةً سخيفةً تثير الشفقة على من يطرحها أكثر مما تثير الضحك ولو من باب “شر البليّة ما يُضحِك”.
هذه التجربة البائسة دفعتني أن أتساءل عن السبب الذي جعل من الإعلام مهنة من لا مهنة له وملاذ الباحثين عن نافذةً يطلون منها دون أن يتكلفوا عناء احترام عقل ووقت من يشاهدونهم؛ فلا تحضير ولا قراءة ولا فهم عميق لما يطرحونه.
الإعلام مهنة من شأنها الرقي بالمجتمعات من خلال ترسيخ المفاهيم والتصورات المتماهية مع حقوق الإنسان ومعالجة الظواهر الاجتماعية التي تحتاج إلى تهذيب وتصويب، وهي في الوقت نفسه مهنة ترتقي بصاحبها بقدر ما يحترمها ويحترم المتلقين لمحتواها الذي يرسم صورة الواقع ويرسم معها جزءاً من خارطة الطريق الرامية لتغيير هذا الواقع إلى ما هو أفضل. في المقابل، قد يكون الإعلام بمثابة مبضع الجراح الذي قد يستخدم لتمزيق أو تقطيع أواصر منظومة التغيير والإصلاح التي تسعى إليها الأمم من خلال مؤسساتها ونخبها ومجتمعها المدني، وهذا الاستخدام الأخير هو أخطر ما يمكن أن تتعرض له أمة من الأمم حينما يغدو إعلامها متنفساً للنرجسيين والمتنفعين والباحثين عن ثناء أو شكر من ثلة من أصحاب القرار الذين تتقاطع بل تتعانق مصالحهم مع زمرة أباطرة المال والأعمال.
يقول السياسي المحنّك جيمس بيكر وزير خارجية جورج بوش الأب في إحدى مداخلاته بحضور جملة من الأكاديميين وصناع القرار في أميركا: “لقد بدأت حياتي محامياً وكان جدي محامياً مخضرماً، وقال لي:
"إذا أردت أن تكون محاميا فاشلاً فعليك أن تعمل بالسياسة...”، فديدن الساسة الناجحين أن يتركوا ما لقيصر لقيصر ولا يرتضون أبداً أن يتصدروا المشهد إذا كان مشهداً معرفياً فنياً ليس لهم فيه باع ولا ذراع، الإعلامي الناجح أيضاً ليس خبيراً في كل ما يطرحه من قضايا قانونية وفنية واجتماعية وسياسية، وإنما حرفته إتاحة مساحات تفاعلية من النقاش البناء بين أصحاب الاختصاص، وسر صنعته يكمن في كيفية إدارة هذا النقاش وليس توجيهه، ففي اللحظة التي يتبنى فيها الإعلامي المحاور وجهة نظر أحد الأطراف يكون قد تخلى عن هويته الإعلامية وارتدى ثوب الطرف الذي انحاز إليه وحينها يكون قد خطّ بيده شهادة وفاة ضميره المهني الميّت أصلاً.
السياسيون الناجحون لم يدرسُوا العلوم السياسية لكنهم فهموا لعبة السياسة واحترفوها، وكذلك الإعلامي الناجح ليس بالضرورة دارساً للإعلام وإنما فهم أخلاقيات المهنة وسر صنعتها فتحلى بها واحترفها. في إحدى الدول المجاورة بات كل متقاعد عسكري ورياضي ومعلم مقهى لم يعد مقهاه يدر عليه ربحاً وفيراً... يحترف الإعلام وما عليه أو عليها إلا أن يتقن وصلات “الردح الحيّاني” ليكون إعلامياً يثير الجدل ومن ثم يحصد عدد مشاهدات أكبر حتى لو كان المشاهدون يتفرّجون عليه وليس له.
كل ما أخشاه أن يكون قلة من الإعلاميين ممن تغلب سيئاتهم محاسنهم وتعمّ ويسعون للظهور واكتساب الجمهور، أن يصيروا مجرد “فُرجة ببلاش”.
مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.