في الجدل مع "فريدم هاوس"

في الجدل مع "فريدم هاوس"
الرابط المختصر

أتيح لنا أن نجري بحثا معمقا في "منهجيات البحث" التي تعتمدها "مؤسسة فريدم هاوس" في إعداد تقاريرها عن حال حرية الصحافة والإعلام في العالم ، فالزيارة التي قامت بها السيدة باولا شريفر ، الخبيرة في المؤسسة إلى الأردن بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة ، واللقاء الذي جمعنا بها ونخبة من المثقفين والإعلاميين والسياسيين في مركز القدس للدراسات السياسية ، كان مناسبة لحوار متعدد المجالات ، ارتفعت حرارته حينا ، وعلت نبرات المشاركين فيه أحيانا ، خصوصا عندما جاء التقرير وجاءت المتحدثة على ذكر إسرائيل ، وتصنفيها كدولة حرة ؟،.

هل يمكن أن يكون حراً ، من يرتضي على نفسه استعباد الآخرين ومصادرة حرياتهم؟...هل يكفي أن توفر حرية التعبير لصحفييك وإعلامييك حتى تكون حراً ، ألا ينبغي أن ينعم صحفيو الدولة أو المجتمع الخاضع للاحتلال لحرية مماثلة؟...وهل بالإمكان أن تكون هناك "حرية" تحت الاحتلال أصلاً؟...أليس الاحتلال بذاته انتقاصا كاملا وعلى تضاد تام مع الحرية كقيمة عليا ومثالْ سامْ؟.

أسئلة وتساؤلات وضعها المشاركون على مائدة الحوار مع "فريدم هاوس" ، من دون أوهام بالطبع ، ذلك أن أيا من المتحدثين والمتسائلين ، لم يخطر بباله للحظة أنه سيقنع المتحدثة أو يغيّر في منهجية المؤسسة التي تعمل لها ، وأحسب أن السيدة المحاضرة التي بدت مقتنعة تماماً بما تعمل ، ومتحمسة تماما لما تعمل ، لم يخطر ببالها أنها ستقنع أياً منا بأن إسرائيل دولة حرة ، أللهم إلا إذا كان المقصود بأنها حرة في التضييق على الفلسطينيين واستعبادهم وجعل حياتهم جحيم لا يطاق ؟،.

السيدة المحاضرة ، وفي معرض دفاعها المفهوم عن منهجية التقرير ، استحضرت مناطق أخرى من العالم للدلالة على وضع مماثل: روسيا والشيشان ، صربيا وكوسوفا لكن هذه الاستحضارات لم تكن بدورها مقنعة ، سيما وأن تقارير "فريدم هاوس" عن هذه الدول والكيانات ، من يمارس الاحتلال منها ومن يخضع له ، صُنّفت كدول حرة جزئيا أو غير حرة على الإطلاق وفقا لتقارير المؤسسة ، ولم تصنف كدول حرة كما هو حال إسرائيل.

لا شك أن الصحافة الإسرائيلية والإعلام الإسرائيليين ، يتمتعان بدرجة عالية من الحرية والاستقلالية والقدرة على الوصول إلى المعلومات ، ولا شك أن المواطن الإسرائيلي يتمتع بهوامش لا يتمتع بها المواطن العربي في دولته ، لجهة حرية الرأي والتعبير والتنظيم وغيرها من الحقوق والحريات ، لكن إسرائيل دولة تمارس تمييزاً عنصرياً ضد مواطنيها من غير اليهود ، وهو أمر ثابت ومُثبت بموجب تقارير المنظمات الحقوقية الإسرائيلية ذاتها ، ويبلغ الأمر أعلى درجات العنصرية والقمع والعدوانية ، عندما يتصل بأوضاع الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة ، فهل يجوز إنكار هذه المسائل في أثناء تقييم حرية الصحافة في إسرائيل ، هل يجوز الاعتماد على ما توفر إسرائيل من حريات لمواطنيها فقط ؟،

وعندما يقول تقرير "فريدم هاوس" أن "المناطق الفلسطينية" غير حرة ، فإنه موضوعيا يضع اللائمة على السلطة الفلسطينية ، التي لم تنج هي ذاتها من "استعباد" الإسرائيلي ، في حين يعلم القاصي والداني إن إسرائيل هي من ينتهك الحريات والحقوق في الضفة ، من دون أن نبرىء السلطة أو نعفيها من المسؤولية ، آخذين بنظر الاعتبار أن جزءاً من قمع السلطة لشعبها يتم تحت ضغط الاحتلال واستجابةً لإملاءاته ووفقا للاستحقاقات المُتضمنة في الاتفاقيات الظالمة المبرمة معه.

في ظني أنه يتعين على "فريدم هاوس" وعلى مختلف المنظمات الدولية والإقليمية المشتغلة بقضايا الحقوق والحريات ، أن تعتمد "تصنيفاً" خاصاً للدول التي ما زالت تمارس الاستعمار ، وهي قليلة على أية حال ، وأن لا تُخضع هذه الدول للمعايير الدولية وحدها ، وأن يجري "خصم" العديد من "النقاط" من "مجموعها العام" لمجرد أنها ما تزال تمارس احتلالاً واستعباداً لشعب آخر ، ولا يجوز قبل "تصفية الاستعمار" أن تُصنف أي من هذه الدول تحت "خانة دول حرة" ، فالحرية قيمة مطلقة وعالمية ، وهي لا يمكن أن تمارس هنا وتحجب هناك ، ولا يمكن لإسرائيل أن تستمتع بأكل الكعكة وأن تحتفظ بها في نفس الوقت ، تتمتع بالحرية وتصنف كدولة حرة ، وتحجب الفلسطينيين عن حقوقهم وحرياتهم ، داخل الخط الأخضر وداخل الأراضي المحتلة عام 1967 ، وما ينطبق على إسرائيل يصلح أيضا للتعميم على أية دولة تحتل أرضاً وتستعبد شعباً آخر ، أيا كان السبب ومهما كانت الذريعة.

وأود أن أذكّر هنا بأن "النقص المشار في منهجية عمل فريدم هاوس" في هذا المجال ، لا ينتقص أبدا من قيمة تقاريرها الدولية ، ولا ينبغي ان يكون سببا للتشكيك في نتائجها ، كما لا ينبغي أن تدفعنا ملاحظاتنا هذه للاسترخاء والقبول بواقع الحال المُقيم عندنا ، فما زال مشوارنا نحو صحافة حرة وإعلام مستقل ، طويلا ، وينبغي أن نقطعه مهما كلّف الأمر ، وسواء بقي الصراع العربي الإسرائيلي محتدما أم وجد طريقة للحل والتسوية