في اعتراض الموكب الحزين

في اعتراض الموكب الحزين
الرابط المختصر

الرحلة الطويلة التي أخرجت د. يعقوب زيادين من الكرك لا تنتهي اليوم بعودته إليها. تلك رحلة تحولاتٍ ثقافيةٍ عميقةٍ وغنيةٍ، كانت بلادنا تتوق لها، واستشعر الحاجة إليها شاعرنا الأكبر عرار الذي سجن لأنه رفع محرمته الحمراء في مكان عام، وقال قصيدته الممنوعة لوقتٍ "خلقت وسأموت بلشفياً"..

 

هذا ما فعله أبو خليل..

 

رحلة طويلة جاءت بالحروف للأميين، وبالعلاج للمرضى، والمدارس للأطفال، والجامعات للشباب، والبذور والأسمدة للمزارعين، والوظائف للعاطلين عن العمل، وأبقت جذوة الحياة حية في إرادتنا الإنسانية البديهية، وحافظت على قدرتنا بالتساؤل حول الحكم والسياسات والشرعية الدستورية..

 

رحلة طويلة، ثرية وعميقة بحق..

 

رحلة استوجبت أن تشجع الليبرالية الإمبريالية رعاية جماعات دينية مأفونة، ودعم سيطرتها على عقل البلاد، وفي مساعدتها على إنتاج إسلام "جديد" يقف مع البنوك ضد المسحوقين، ومع الجهل ضد الأميين، ومع الأوبئة ضد المرضى، ومع الأمية ضد الأطفال، ومع التجهيل ضد الشباب، ومع الحشرات والصقيع ضد المزارعين، واختزلت الإرادة الإنسانية الأهم بـ"بيعة" غير مشروطة لخلافة تحدد الـ"سي. آي. إيه" شكلها!

 

هذا هو العمر الطويل الذي عاشه الدكتور يعقوب!

 

كان من الممكن أن يمضي هذا العمر الطويل على الدكنور يعقوب قسيساً منسياً في كنيسة مُحبة؛ لكنه بتعبير قوي عن التحولات الثقافية التي كان يتوق إليها الأردن في عصر التيه الثقافي الكبير الذي عاشته البلدان والشعوب العربية أختار أن يكون بلشفياً، وأن يمضي على الطريق الذي فرضه الوعي الوطني. وفي الطريق إلى ذلك وجد نفسه في مواجهة شخصيات تشاركه بعض قناعاته بما يتعلق بالبلاد، لكنها كانت تنزاح إلى الظلامية بحكم ارتباطاتها بالحكم وعلاقاته..

 

أتحدث عن هزاع ووصفي والآخرين..

 

ونعرف اليوم أن كل هؤلاء تم استثمارهم لإنتاج "وطنية" أردنية جديدة تعتدي على الحقائق والواقع التاريخي والجيوسياسي المؤسسة للحقيقة الأردنية، ولا هدف لها إلا التأسيس لعصبية حكم العائلة؛ ويتم اليوم استخدامها في التفاوض حول المشاريع الصهيونية بشأن الأردن. ونعرف أن الدكتور يعقوب اختار أن يكون بلشفياً، وتعامل مع الواقع الذي فرضته الحماقات السياسية، وانتزع حقاً وبرهاناً على براءة أبناء جيله من الوطنية المستحدثة، وسجل اختراقاً للجذر الطائفي والإقليمي في القانون الأردني المعادي للدستور فنجح نائباً عن المقعد المسلم في القدس، وهو "الشرق أردني" "المسيحي"..

 

وهنا، حديث غائب، لا يذكره أحد، عن الفلسطينيين ومآثرهم الأردنية!

 

وهنا، بالذات، حديث لـ"أبو خليل" وبقية من رفاقه، منهم عبد الله السرياني، وسليمان النجاب، ووزيرة الثقافة البلغارية السابقة (أرملة رفيقنا الدمشقي الفلسطيني فؤاد نصار. رفيق يعقوب القديم) وحديث لرفاق آخرين، ممن عاشوا أصل حكاية الالتباسات الأردنية الفلسطينية، في لحظة العبث التاريخي بها، وجهود خلق "وطنية" أردنية تقوم على الـ"ضد" فلسطينية. علما أن ستينيات القرن الماضي شهدت محاولة لتغيير قواعد وأسس "الوطنية" الأردنية الجديدة لتقوم على مبدأ الـ"ضد" ناصرية، على قاعدة توظيف التكافل الأردنوي الفلسطينوي..!

 

من يقرأ "بدابات" أبو خليل أو يسمع صوته يغرق الأردنية الصافية غير الموظفة.

 

في الجانب الآخر من الحياة والمواقف؛ فإن الكركي الأردني النزيه لم يكن على عقيدة ماركسية محددة. لم يكن لينيناً، ولا تروتسكياً ولا ماوياً. لقد كان مناضلاً حزبياً بهموم وطنية، وآمال عالمية..

 

كان سوفيتياً عتيقاً، وكان بلشفياً أكيداً.

 

البلشفية التي أكد عليها شاعر البلاد الأعظم. التوق الأردني الأصيل الذي لا يعدله شيء في الأردن، والكرك على وجه التحديد، سوى البعثية والقومية الاشتراكية!

 

ومن الملفت أن الأردنيين وأقرانهم الفلسطينيين إما أن يكونوا بلشفيين. أي أبناء تلك النسخة الروسية التي أنتجتها ثورة أكتوبر، وصاغها لينين، وبنى دولتها الرفيق ستالين، فأنتجت في الختام تياراً  ماركسياً "سوفيتياً"، أو مجرد مهرطقين!

 

كان أبو خليل سوفيتياً عتيقاً طول عمره. لكنه على الدوام كان مزنوقاً بفكرة القائد التي لم تكن تناسبه ولا تعبر عنه. فقد كان مناضلاً كبيراً، وكلما دُفع باتجاه القيادة تحول إلى موظف. وكان "موظفاً" حزبياً رفيعاً، وإنساناً مذهلاً وهو أحد المؤسسين الرواد الكبار المعدودين للبلاد. واحدٌ من مؤسسي الأردن وأهم صانعيه، وهو من القلائل الذين صاغوا وعيه وتفكيره وحددوا علاقته بشقيقته الكبرى: فلسطين، أما أهمية أبو خليل الكبرى والملحة فهي في أنه الباروميتر الذي تحاكم وفقه نظريات الوطنية الأردنية المستحدثة، التي يا للغرابة تصدر عن نزعات شوفينية!

 

هنا، أعترض طريق الموكب الحزين..

 

وأتذكر: هذا خامس موت تاريخي مهم في الأردن؛ هزاع، ووصفي، والملك الراحل، وحبيب الزيودي، وأبو خليل. وكلهم كانوا يقاتلون ضد أنفسهم، أما أبو خليل فمناضل واع لأجل بلادنا!

 

  • ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

 

 

 

أضف تعليقك