فرنسا التي في خاطري!

فرنسا التي في خاطري!

 

 

ولكن ليس في دمي، كما في أغنية السيدة أم كلثوم! وإنما، ربما، من دمي ودم كثير من الشعوب المسحوقة. فرنسا اليوم تبرز واحدةً من أسوأ الدول الاستعمارية- الجديدة، ومن أكثر دول أوروبا عنصريةً واضطهاداً للمهاجرين، وأبعد ما تكون عن روح الثورة الفرنسية ذاتها.

 

متى كانت فرنسا ممثلة لروح الثورة الفرنسية؟ الواقع أن الأسس الفلسفية للثورة الفرنسية كانت ممتدة عبر عموم أوروبا، ولم تكن محصورة بالجغرافيا الأرضية والجغرافيا الفلسفية لفرنسا، وكما كان هناك فولتير المتقدم زماناً كان هناك هيغل المتأخر والمكمل للسياق نفسه، الذي يمتد لاحقاً لكارل ماركس، وكما هناك مونتسيكيو كان هناك جون لوك وغيره من الفلاسفة البريطانيين والأوروبيين من واضعي فكرة المواطنة، بل إن جان جاك روسو نفسه لم يكن فرنسياً، إنما سويسرياً من مدينة  جنيف الناطقة بالفرنسية، حمل أحلامه ومضى من جنيف إلى باريس في مؤشر آخر على أن الفكرة والروح والسياق كانت كلها عابرة للحدود. وإذا كانت فرنسا تشير إلى هوغو كأيقونة لما بعد الثورة فإن تشارلز ديكنز كان أيقونة إرهاصات السعي إلى العدالة الاجتماعية بمعناها الحديث. ليس المقصد هنا التقليل من الإنجاز الحضاري الضخم للثورة الفرنسية، ويمكن من دون تسطيح أو تبسيط زائد ملاحظة أن ما حققته فرنسا بالدم والثورة والصراع تحقق في دول أوروبية أخرى بتطور سياسي بطيء كما في بريطانيا وعموم غرب أوروبا، أو بنضالات عمالية نقابية تراكمية كما في شمال أوروبا. الروح نفسها والثورة نفسها ولكن في سياقات مختلفة. ولعله من المهم هنا أن ينتبه رومانسيو الثورة في بلادنا إلى هذه المسألة بينما هم يكررون من غير ملل وفي كل نقاش أن الثورة تتطلب تضحيات كبيرة وأن طريقها الوحيد هو طريق الدم!

 

الأهم من كل ذلك أن التاريخ الفرنسي بعد الثورة الفرنسية حِفل بأسوأ الممارسات الاستعمارية. ومقارنة مع عملاقي أوروبا الآخرين، ألمانيا وبريطانيا، بل وحتى مع الاستعمارات الأقدم مثل البرتغالي والإسباني، فإن الاستعمار الفرنسي كان الأقسى والأكثر دموية، بل وحمل مميزات التطهير العرقي في كثير من الحالات. وفيما كانت معظم الدول الأوروبية التي مارست الاستعمار تكتفي بحكم الشعب الخاضع للاستعمار فإن فرنسا حاولت في الجزائر، مثلاً، نقل مئات آلاف المستوطنين إلى الأرض الجديدة، وتكونت من هؤلاء المستوطنين (أو المستعمرين بحسب الوصف الفرنسي وقتها) قوة ضاربة هددت الديمقراطية في فرنسا نفسها. وفي جنوب شرق آسيا كان الاستعمار الفرنسي شديد الوطأة والإجرام إلى الحد الذي دفع الفيتناميين إلى تكوين الجسر البشري الشهير في معركة ديان بيان فو، رغم كل الخسائر البشرية. كل ذلك كان يجري في خلفية مشهد سيمون دي بوفوار وإديث بياف.

 

فرنسا القرن الحادي والعشرين لم تخيّب الظن. غرب ووسط أفريقيا مليئان بالشواهد على بربرية رأس المال الفرنسي. في نيجيريا ما تزال فضيحة كبريات الشركات الفرنسية المختصة باستخراج اليورانيوم ماثلة للعيان حيث مستويات الإشعاع المرتفعة للغاية تغمر كل السكان في المناطق القريبة من أماكن نشاط الشركات الفرنسية. وتبدو البصمات الفرنسية جلية في أحداث رواندا وبوروندي وأفريقيا الوسطى وتشاد، وأخيراً في غزو ليبيا إبان الثورة.

 

ليبيا بالذات شهدت تحركاً عسكرياً فرنسياً ريادياً مقابل تردد أمريكي. شراهة للسيطرة عبرت عن نفسها بوضوح. فرنسا ترغب في ممارسة دور سلطوي على الضفة الأخرى من المتوسط، ولم تضيع الفرصة فأرسلت مقاتلاتها ضمن الحملة الجوية على قوات طاغية ليبيا الراحل بعد أن ترددت أمريكا في المشاركة، ولكن المشاركة العسكرية الفرنسية لم تكن لإنقاذ الشعب الليبي، إنما لفرض حصة كبرى للشركات الفرنسية في ليبيا ما بعد القذافي. تبين لاحقاً أن التردد الأمريكي له ما يبرره بناء على شكل القوى الظلامية التي تسرح اليوم وتمرح في ليبيا الجديدة التي شاركت فرنسا بفعالية في صياغتها.

 

في سوريا وضمن وضع مماثل للوضع الليبي من حيث تنظر فرنسا، طاغية يقمع ثورة شعبية ويحولها إلى تمرد مسلح، أبرزت فرنسا أنيابها السياسية والتسليحية والاستخبارية كافةً في محاولة لضمان أي دور لها، ولو كان ذلك سيؤدي إلى تشظي الدولة السورية. فرنسا ذاتها الأكثر نشاطاً -أوروبياً على الأقل- فيما يجري في ليبيا وفي سوريا، كانت من أقل دول أوروبا استقبالاً للاجئين وترحيباً بهم، في الوقت الذي تتصاعد فيه شعبية اليمين الفرنسي وتصل الممارسات العنصرية إلى حد كونها أصبحت ظاهرة قابلة للرصد والقياس. لا يعني هذا بالطبع إلقاء المسؤولية كاملةً على الفرنسيين وتبرئة المهاجرين واللاجئين من المسؤولية، لكمن من الملاحظ بسهولة أن فرنسا تشهد مستويات أعلى من العنصرية مقارنة مع معظم الدول الأوروبية الأخرى.

 

في مثل هذه الأوضاع من السهل بمكان أن تتوقع أن الأزمات الاقتصادية ستتسبب بمزيد من العدائية، وهذا بالضبط ما يحصل بالفعل، فالاقتصاد الفرنسي في وضع يهدد بتحول فرنسا إلى دولة من العالم الثاني أو على الأقل في مؤخرة دول العالم المتقدم، ويشكل ذلك الوضع ضغطاً غير مسبوق على الأمة الفرنسية ويهدد مستويات معيشتها. هنا تماماً تبرز مخاطر العسكرة والتوجه نحو التفكير الدائم باستخدام القوة أينما كان وكيفما اتفق. وهنا تماماً تصبح العلمانية تعالياً على الدين إن لم تكن ديناً جديداً، والديموقراطية تعدياً على التعدد إن لم تكن استبداداً للحرية.

 

إخوتنا الفرنجة، الفرنسيون، يحاولون اليوم استعادة دور استعماري عفى عليه التاريخ، بطريقة فجة مليئة بالتوتر والعدائية والعدمية. فرنسا التي في خاطر رومانسيي الثورة ليست إذاً فرنسا التي على أرض الواقع.

 

علاء الفزاع: كاتب أردني مقيم في السويد.

أضف تعليقك